مظاهر تسامح الحضارة الإسلامية فى الأندلس (1)
عرف المجتمع الأندلسى بالتعدد على مستويات الأجناس المتساكنة فيه من العرب والبربر والروم والمولدين والصقالبة، وعلى مستوى الأديان والعقائد، كالإسلام واليهودية والمسيحية، وعلى مستوى اللغة كاللاتنية والعربية والعبرية، الفصحى منها والعامية.
عاشت هذه العناصر منذ الفتح فى سلام وطمأنينة، وعملت الخلافة الإسلامية منذ الفتح على احترام هذه التعددية "فأما اليهود فقد وثق المسلمون فيهم عند الفتح وضموهم فى كل بلد مفتوح مع حامية إسلامية، وقد تركوا لهم حرية العقيدة وحرية التنظيم الداخلى للجماعة اليهودية، وأما أهل الذمة من النصارى فإن العرب الشاميين نزلوا على أموالهم، وكان لهم قضاتهم كما كان لهم مطران مركزه طليطلة، وحفظ العرب لهم أديرتهم وأكثر كنائسهم"(1).
ويظهر أن هذا الأمر قد خلف نوعًا من الثقة بين العرب الوافدين، وغيرهم من سكان شبه الجزيرة الإيبيرية، وفى ظل التسامح الدينى، استطاع بعض العرب من أجل تكوين أسرهم اتخاذ زوجات إسبانيات من السكان الأصليين، وفى ظل هذه الأسر الجديدة تلاشت الفروق بين الأصول القبلية العربية وغيرها، وأصبح الانتماء للأندلس هو الغالب على سكانها.
ونتج عن هذا التزاوج ظهور عنصر المولدين، الذين قاموا بدور كبير وبارز فى تطور المجتمع الأندلسى، عن طريق "دورهم فى الاقتصاد العام للبلاد، حيث كانوا يمثلون العنصر الأكثر نشاطًا والأحسن توافقًا مع المستعربين والبربر على ظروف شبه الجزيرة، وبمساعدتهم على التطور، أى معاونة الكثير منهم على الغنى والدخول شيئًا فشيئًا فى المجتمع الأندلسى، حيث كان العنصر الفاتح يكون أرستقراطية خاصة"(2).
استطاع هؤلاء المولدون بفضل حسن سلوكهم أن ينالوا ثقة الحكام، فاعتمد الأمويون على عدد من عناصرهم فى قمع بعض الثورات، والقضاء على أسباب الانقسامات السياسية لبعض العناصر الطارئة من عرب وبربر، وأظهر هؤلاء المولدون حسن تمسكهم بالإسلام وإخلاصهم له(3).
كانت الحرية الدينية التى سادت فى المجتمع الأندلسى عاملاً فعالاً فى توجيه الناس للمعرفة، والأخذ بأسباب التعلم بلغات مختلفة عربية أو عبرية أو لاتينية، فكان العرب يدرسون هذه اللغات إلى جانب اللغة العربية، كما كان غيرهم من المسيحيين واليهود يقبلون على دراسة اللغة العربية بجانب لغتهم الأم، وفى تراجم الأعلام نجد كثيرًا من القضاة العرب ممن كانوا يتصدرون مجالس الحكم يتقنون الحديث باللاتينية كما يتقنونه بالعربية، بل إننا نجد بعض علماء العصر ممن كان يتفوق فى أكثر من نوع من أنواع المعرفة وبلغات مختلفة، نذكر منهم على سبيل المثال أبا بكر الرقوطى المرسى الذى كان "طرفًا فى المعرفة بالفنون القديمة، المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب، وفيلسوفًا طبيبًا ماهرًا فى معرفة الألسن يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التى يرغبون فى تعلمها، شديد البأو مترفعًا متعاليًا، عرف طاغية الروم حقه لما تغلب على مرسية، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود"(4)."يتبع"
_________________________________________
هوامش:
(1) تاريخ الأدب الأندلسى عصر سيادة قرطبة للدكتور إحسان عباس ص13.
(2) الأندلس فى نهاية المرابطين وبداية الموحدين للدكتورة عصمت دندش ص250.
(3) المصدر نفسه.
(4) الإحاطة فى أخبار غرناطة ج3 ص67 الطبعة الأولى .