قضية للنقاش
المعارك الفكرية والأدبية بين الأمس واليوم
د. يوسف نوفل: الأمر منوط بقضية مهمة جدًا هى الموضوعية والمعيارية
د. حلمى القاعود: تغير الزمان وتغيرت الناس، وصارت القيم الصلبة قيمًا سائلة
د. عصمت رضوان: الأديب الحقيقى لا تدفعه المنافسة إلى انتقاص منافسه، بل يحترم إبداع غيره
د. إيهاب بديوى: زمان كانت المنافسة معنوية بحتة وكل أديب منكب على مشروعه
عبدالله خزعل: أعتقد أن ما تغير هو الجو العام الذى يحيط بالمنافسة الأدبية
مصطفى السلام: نحتاج إلى تدبر الاختلافات الأدبية والنقدية والفكرية بروح علمية
كان النصف الأول من القرن العشرين حافلًا بالنقاشات والمعارك الفكرية بين الأدباء والنقاد، أثرت معظمها الساحة الثقافية والأدبية والفكرية، لأن معظمها كان اختلاف رأى بين مدارس أدبية ونقدية، وقلة منها كانت معارك شخصية عبر بها أصحابها عن موقف شخصي.
ودارت الأيام وتوالت السنون واختفت المعارك الفكرية الجادة، وحلت محلها خصومات وضغائن وتناحرات شخصية لم تفد الأدب والثقافة بشيء.. "سماء عربية" طرحت القضية على عدد من النقاد والأدباء للتعرف على أبعادها وتأثيرها، وكانت هذه إجاباتهم.
ابتدرنا الناقد والأكاديمى الكبير د. يوسف نوفل بقوله: عرفت الحياة الأدبية المعاصرة المعارك والخصومات الأدبية منذ بداية عصر النهضة الحديثة، واتسمت هذه المعارك - باختصار شديد - بثلاث سمات:
أولها الاختلاف الموضوعى فى الرأي، ومن هذا النوع المعارك التى دارت حول كتاب "فى الشعر الجاهلي" لطه حسين عام ١٩٢٦م، حيث تصدى لتفنيد الجانب المتطرف من آراء د. طه فى هذا الكتاب عدة كتب هي: "تحت راية القرآن" للرافعى و"الشهاب الراصد" لمحمد لطفى جمعة وكتب لكل من : محمد الخضري، محمد الخضر حسين، الغمراوي، محمد عرفة، محمد فريد وجدي، وزكى مبارك وغيرهم، إلى جانب عشرات المقالات التى فندت الآراء تفنيدًا موضوعيًا.
ومن هذا القبيل ما دار من معارك أفادت وأثمرت، وكان من أبطالها: أمين الخولي، محمد النويهي، ومحمد مندور وأمثالهم ممن يطول حصره.
وثانيها الاختلاف المغرض أو غير الموضوعي، ولعل أشد ما يمثل هذا النوع كتاب "الديوان فى الأدب والنقد" فى مطلع الألفية الثالثة من القرن الفائت لكل من العقاد والمازني، وصبا فيه جام غضبهما على أعلام كبار لهم مكانتهم المرموقة دون تبرير فنى أو معايير نقدية وهم: شوقى والمنفلوطى وشكري.
ومن ذلك أيضا كتاب "على السفود" للرافعى مهاجمًا العقاد، ويبدو الانفعال والمبالغة المرفوضين فى العنوان وفى دلالاته القبيحة.
وثالثها الاختلاف الأيديولوجى أو العقدي، ومن أمثلته كتاب "فى الثقافة المصرية" الذى صدر فى خمسينيات القرن الماضى لكل من عبد العظيم انيس ومحمود أمين العالم، مهاجمًا أدب طائفة من الكتاب، وسمهم بالسلبية ومنهم: محمود تيمور، محمد فريد أبو حديد، ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهم، وقد رد الهجوم يوسف السباعى فى مقاله: "المقاييس الضيقة" بمجلته الرسالة الجديدة، ورد غيره بينما أيد المهاجمين د. عبد القادر القط وغيره.
وما تزال المعارك والخصومات الأدبية تمضى على هذه الوتيرة فى أيامنا، لأن الأمر كله منوط بقضية مهمة جدًا هي: أين الموضوعية والمعيارية فيما يثار من قضايا واختلاف الرأي؟ وهذا ما يذكرنا بمقال للسحرتى بعنوان "ألوان من انحراف النقد" نشر فى مطلع النصف الثانى من القرن الفائت.
وهنا ننتقل إلى السؤال: ما الحل؟
الإجابة أنه لكى نظفر بمعارك أدبية إيجابية تثرى حياتنا الأدبية، وتقوم على الاختلاف الموضوعى فى الرأي، فإن على الناقد أن يلتزم بما اتفق عليه من الشروط، التى ينبغى توافرها وتحققها فى الناقد، لتكون الدافع إلى الاختلاف فى الرأى وهى بإيجاز شديد:
١ -التجرد من الهوى والميول والعاطفة.
٢ –استبعاد الانتماءات الطائفية أو العقدية أو المعهدية أو الشللية أو غيرها.
٣ - توافر ما أجمعوا عليه من ثقافة الناقد المتمكنة فى الحقل المنقود.
٤ - استبعاد الأغراض الشخصية أو النفعية.
٥ - نفى التعصب نفيًا تامًا.
ومع الأسف الشديد تكتنف حياتنا النقدية المعاصرة بعض هذه العيوب وتفسدها، وبخاصة حين يعتلى الناقد كرسيًا إداريًا أو يحكم قبضته فى وسيلة نشر أو نافذة جوائز أو قرارات مناصب!!!!. الأمر الذى يحول مجرى المعركة الأدبية لصالحه دومًا!! وفى رأيى أن هذا ليس بناقد وإن ما يثيره من معارك هى كقبض الريح أو كغثاء السيل.
واستهل الناقد والأكاديمى الكبير د. حلمى محمد القاعود رأيه بقوله: تغير الزمان وتغيرت الناس، وصارت القيم الصلبة قيمًا سائلة.. كان الحوار الساخن أو ما يسمى بالمعارك الأدبية والفكرية، نتيجة لاختلاف وجهات النظر وتباين الرؤى، وكان الأدباء والمفكرون يملكون موهبة الكتابة المدعومة بالثقافة العميقة. الآن تصدر المشهد الثقافى والدعائى أشباه الموهوبين وهواة الشهرة وطالبى الرزق الحرام، الذين حولوا الفكر والأدب إلى سبوبة يرتزقون منها، من خلال النشر أو اللجان أو التفرغ أو النوادى والندوات والمؤتمرات، أو التحكيم لأبحاث سطحية أو نحو ذلك. بعضهم وقد بلغ من الشهرة غايتها بحكم الضخ الإعلامي، لا يحسن الإملاء ولا النحو ولا أدوات التعبير الجيدة، وتجده يطبع ما يسمى الأعمال الكاملة فى جهة رسمية، ويطبع مفرداتها فى جهات رسمية أخرى، ويتقاضى مكافآت من هنا وهناك، ثم يكون مصير مطبوعاته إلى المخازن لتقتات عليها الفئران أو القوارض، لأنها لا توزع ولا يجد فيها القراء قيمة ذات بال. إنهم يجيدون التوسّل إلى من بيدهم القرارات الثقافية، ويتسللون إلى النوافذ الدعائية بطريقة وأخرى، ويصنعون لأنفسهم هالة زائفة تخدع الشباب، بل تغرى الباحثين السطحيين بترديد أسمائهم واتخاذ كتاباتهم مجالًا بحثيًا، ووصل الأمر إلى الجامعات التى ترى فى مهرجان الدعاية مسوغًا لقراءتهم واعتمادهم فى الأبحاث العلمية الأكاديمية.
لقد فصلت كثيرًا من ذلك فى كتابى "الفجر الصادق- تحديات الأدب المعاصر"، ومن شاء فليرجع إليه، بيد أن السياق العام جعل هؤلاء المتصدرين للمشهد الثقافي، يقمعون كل رأى مخالف، ويهمشون كل موهبة حقيقية لا تتوسل بأساليبهم، ويحجبون كل خبر يتعلق بغيرهم، وحوّلوا الصحف والمجلات والهيئات الثقافية - بهيمنتهم وسيطرتهم - إلى صحراء قاحلة، لا ينبت فيها غير أشواكهم ونباتاتهم السامة والخواء البارد، وهو ما قضى على المعارك الفكرية والأدبية المثمرة التى شهدناها فى النصف الأول من القرن العشرين، وكان يحيط بها الاحترام المتبادل والأسلوب الراقي، والقيم الصلبة.
وبعامة فأن من تسطع موهبته وتعمق ثقافته، يكون عادة أكبر من تحويل الحوار الأدبى الساخن إلى مسألة شخصية. والحل من وجهة نظرى ليس لتوحيد الصفوف، فقد خلقنا الله على أساس من التنوع والتكامل. توحيد الصفوف يكون فى القتال، فى المواقف السياسية والاجتماعية والإنسانية. فى الثقافة والفكر والأدب تتلاقح الأفكار والرؤى لتثمر إضافة ومعرفة ومتعة. نحن محتاجون لإثراء الكلمة بالوعى والمعرفة والتجربة.
ومن رأيى الذى أعلنته مرارًا إلغاء وزارة الثقافة، والإبقاء على بعض القطاعات الضرورية للغاية فى صورة هيئات مستقلة، وفى الوقت نفسه تشجع الدولة قيام جمعيات ومؤسسات فردية أو جماعية تكون مهمتها خدمة الثقافة تطوعا ومبادرة ذاتية، فتنشر وتمنح الجوائز وتعقد لقاءات ومؤتمرات، وفى ساقية الصاوى نموذج للفكرة الفردية التى تنشر الثقافة وتحقق ربحًا أيضًا، حينئذ يتساقط السطحيون والباحثون عن الرزق الحرام أو السبوبة، وأصحاب القيم السائلة.
ويرى الناقد والأكاديمى د. عصمت رضوان أن المنافسة بين أصحاب المهنة الواحدة لهو من الأمور الثابتة فى كل زمان ومكان، وليس الأدباء بمعزل عن هذه القاعدة العامة، فهؤلاء أيضًا يُعرفون بالغيرة الناتجة عن التنافس فى تحصيل لقب، أو نيل جائزة، أو كسب الجماهيرية والشهرة. وقد تكون هذه المنافسة شريفة لا يترتب عليها أى تجريح أو انتقاص فى المنافس، وقد يتطرق إليها شيء من هذا التجريح والانتقاص فى الطرف الآخر.
النوع الأول هى المنافسة البناءة التى تدعو كل واحد من الأدباء والشعراء إلى تجويد فنه، ليحقق ما يطمح إليه من أهداف، بدلا من انتقاص غيره والحط من شأنه. أما النوع الأخير فهى المنافسة الهدامة التى تضر بالأدب، وتحيله إلى ألوان من التهاجى البغيضة الممقوتة.
لقد كان الأدباء فيما مضى يختلفون، ويتنافسون، بل تنشب بينهم المعارك الأدبية، ومع هذا كله كان خلافهم لا يفسد قضية ودهم، بل كان اختلافهم فى حدود الفكر والأدب، ومع الالتزام بالخلق والأدب.
فالأديب الحقيقى هو الذى لا تدفعه المنافسة إلى انتقاص منافسه أو النيل منه، بل يحترم إبداع غيره، وينظر إليه بعين الحيدة والموضوعية، بعيدًا عن الغيرة والأحقاد التى تؤدى إليها المنافسة غير النزيهة.
بهذه الروح النزيهة يرتقى الأدب، وينهض الإبداع، وتسود بين أهل الأدب أواصر الألفة، وروابط المحبة.
يضيف الروائى د. إيهاب بديوي: لو رجعنا إلى خلفيات الأدباء فى أوائل القرن 20م، نجد أن الثقافة هى المحرك الأساسى لمعين الكتابة عندهم. ولن نجد كاتبًا أو شاعرًا أو ناقدًا سطحيًا غير قادر على مجاراة الكبار فى مناقشاتهم العميقة التى تثرى الفكر. لذلك كانت المعارك التى بينهم تدور فى إطار فكرى ثقافى بحت. قد أعتبرها منافسة محمومة للوصول إلى الريادة والتميز والتفرد الذى يبرز العبقرية الذاتية. وكانت تلك المنافسة معنوية بحتة فكل أديب منكب على مشروعه، فى محاولة لنشر أكبر قدر ممكن منه قبل انتهاء الحياة. فى النهاية يجتمع المختلفون حول مائدة فكرية واحدة. أما فى زماننا فقد أتاح انتشار وسائل التواصل وسهولة عملية النشر لجميع الفئات العمرية والثقافية فحدث تفاوت هائل بين الأفكار المطروحة ولم يعد هناك رابط ثقافى واحد بين الأدباء. هذا بخلاف كارثة طرح أفكار سطحية لا قيمة لها وعدد هائل من المنشورات التى تسعى جميعها للوصول إلى حلم النجاح والشهرة والثراء. وهذا هو الفارق الجوهرى بين الماضى والحاضر. وزاد من حدة تلك التنافسية المقيتة، ظهور جوائز بقيم مالية كبيرة، جعلت الأحلام تزداد حدة وشراسة، وخلقت خلافات عميقة خلفت جراحًا لا تندمل بين الجميع. وهناك سبب آخر بالغ الأهمية هو غياب الرواد وانعدام القدوة بين المتصارعين على المناصب الثقافية والجوائز النقدية والهدايا العينية، وهذا ما أدى إلى غياب الأحكام النقدية التى كانت تميز بين الخبيث والطيب، وللأسف أن الموضوع سيزداد سوءًا فى السنوات المقبلة حتى نستعيد التسلسل الطبيعى للصعود الفنى والأدبي.
ويرى الناقد والأديب العراقى عبد الله خزعل أن المنافسة الأدبية يجب أن تخضع لمعايير متفق عليها مسبقًا، فكما يقال اختلاف الرأى لا يفسد فى الود قضية.. فتاريخ المنافسة الأدبية بدأ منذ العصر الجاهلى وتحكيم زوجة امرئ القيس بينه وبين علقمة الفحل، وكذلك زوجة الفرزدق النوار عندما حكمت بينه وبين جرير، فقالت: إما الفرزدق فينحت فى صخر وأما جرير فيغرف من بحر، فغضب من قولها الفرزدق وطلقها.. ولم يحدثنا التاريخ عن جفوة بين المتنافسين، فربما يكونا صديقين كالفرزدق وجرير ونقائضهما الشهيرة.
أعتقد أن ما تغير هو الجو العام الذى يحيط بالمنافسة الأدبية، ووسائل الإعلام التى تزيد من الشرخ بين المتنافسين، ويكون الإعلام سببًا رئيسيًا فى الفرقة والعداوة.. كذلك من أسباب العداوة والفرقة بين المتنافسين: الثقافة الشخصية وعدم التجرد من الأنا، وربما يكون للصراع الفكرى والمذهبى دور فى إحداث الفرقة وتزكية العداوة.. لذا هى دعوة أولًا للتجرد من الأنا، وكذلك طرح كل الأفكار الثانوية، التى قد تؤثر فى مسألة النقاش والاختلاف الأدبي.. الدعوة إلى التسامح والحب.
الأكاديمى المغربى د. مصطفى السلام الخصومات بين الأدباء هى من بين الخصومات أو العداوات التى تحدث بين ذوى الصنعة الواحدة كما قال أحمد امين يرحمه الله.. كما أنها ظاهرة تحدث على مر العصور مما يجعلها طبيعية ومألوفة فى تاريخ العلم والأدب والفكر والنقد، وهى فى نظرى ترجع إلى:
- التحاسد: حيث يدخل الحسد والغيرة النفس الإنسانية ويسود بين ذوى الصنعة الواحدة، وهنا يؤدى التنافس على المكانة او المنافسة فى المراتب إلى الصراع والخصومة.
- سوء التأويل: كثير من الخصومات، عندما تدرس أسبابها، نجدها ترجع إلى سوء تأويل حدث لموقف أديب أو عمل له، فيكون الرد مشحونًا بالغضب والكراهية مما يؤدى إلى العداء بينهما.
النفوذ أو الإشعاع: أحيانًا يحقق أديب أو مفكر إشعاعًا، ويكون له نفوذ فى الساحة الأدبية أو الإعلامية أو الجامعية.. وعامة فى سوق الأدب والفكرن مما يجعل من هم دونه يسعون إلى الحد من نفوذه والحط من قيمته، بالبحث والتنقيب فى سيرته وحياته عن النقائص والعيوب، أو التشهير به والإساءة إليه.
- الفرق فى السن: هناك خصومات نشأت بين شيوخ الأدب وشبابه، الشيوخ محافظون ويعتقدون أنهم الأصل، والشباب بحكم ميلهم إلى التغيير والتجديد أو الثورة، وهكذا ينشأ الصراع.
- الاقتراب من السلطة الانتفاع منها: وهو من أشد الأسباب توليدًا للخصومة بين الأدباء وأهل الفكر، فيكون الصراع والعداء بين من يواليها وبين من يعاديها.
هذه فى نظرى بعض أهم الأسباب، وفيما يخص الحلول، أشير إلى ما يلي:
- التربية على ثقافة الاختلاف والتعدد وقبول الاخر
- تدبر الاختلافات الأدبية والنقدية والفكرية بروح علمية، بعيدًا عن النرجسية وحب الذات.
- التمييز فى الخصومات بين ما هو أدبى أو فكرى وبين ما هو شخصي، لترقية النقاش إلى نقاش علمى يحتكم إلى ضوابط أخلاقية وعلمية.