معركة المدمرة البحرية
أبطال اللنشات ينسفون «إيلات ويافو»
فى النصف الأول من الستينيات انضم للقوات البحرية المصرية سلاح جديد وهو سلاح صواريخ "سطح سطح" المحمول على لنشات وتم تكوين فى هذا الوقت ما عُرف باللواء الثانى لنشات صواريخ بقيادة العقيد السيد عبدالعال، وتكون أسراب هذا اللواء من لنشين يحملان أرقام "501 و504"، على أن يقود السرب النقيب أحمد شاكر عبدالواحد.
خرجت القوات البحرية المصرية من حرب يونيو 1967 بدون خسائر لعدم حدوث أية اشتباكات مع البحرية الإسرائيلية التى كانت تعرف تماما بفارق القوة، وهذا الأمر كان له أثر قاسى على القوات المسلحة بسبب النكسة فضلا عن أن القوات البحرية لم تشارك فى الحرب فكان الأمر يمثل خجلا للجنود أمام المواطنين والأهالى، لكنهم رغم كل هذا تمكنوا من تحمل المسئولية، ومرت الأيام إلى أن جاء أمر إنزال بالتشكيل إلى قاعدة بورسعيد البحرية وهنا كان جميع الجنود يتسابقون من أجل الحصول على فرصة الانتقام والاصطدام مع إسرائيل فى المعركة بهدف "رد الاعتبار أو الاستشهاد" وكان هذا بالنسبة لهم أفضل كثيراً من الحالة التى وصلوا لها بعد النكسة، وتمركز اللنشان على الساحل بجوار مراكب الصيد بشكل مُتخفى.
المدمرة إيلات فى مواجهة اللنشات المصرية:
فى 11 يوليو 1967 تلقى قائد المدمرة إيلات تعليمات بالتحرك بمصاحبة اثنين من لنشات الطوربيد المسلحة للوصول إلى المنطقة شمال شرق بورسعيد، وعمل كمين لأية وحدات بحرية مصرية تخرج من ميناء بورسعيد للقيام بدوريات استطلاع فى هذه المنطقة، فى هذا التوقيت ظهرت المدمرة إيلات على شاشة رادار القوات البحرية المصرية، فصدرت التعليمات للنقيب عونى عازر قائد سرب لنشات الطوربيد المكون من لنشين للخروج باستطلاع الهدف وعدم الاشتباك معه إلا فى حالات الدفاع الشرعى عن النفس، وخرجت لنشات الطوربيد من ميناء بورسعيد لتنفيذ المهمة وواجهت اللنشات صعوبات ومشاكل فنية أثناء تقدمها للهدف المعادى فتعطلت الرادارات ولكن اللنشات تقدمت بسرعات بطيئة نظرا لسوء الحالة الفنية للماكينات، وبسبب سوء الحالة الفنية للنشات، لاحظت اللنشات الإسرائيلية ذلك وخرجت من مكمنها وفتحت النار على اللنش الثانى بقيادة العقيد ممدوح شمس الذى أبلغ من خلال اللاسلكى عن نشوب حريق فى اللنش، وأمرته قيادة القاعدة بالعودة فورا إلى الميناء ولكن كان الاتصال بينهم قد انقطع.
غرق اللنش الثانى واستشهد جميع أفراده وبقى اللنش الأول بقيادة النقيب عونى عازر وحيدا فى مواجهة غير متكافئة مع المدمرة إيلات، التى استمرت فى إطلاق النيران تجاه اللنش فأمر النقيب عونى من تبقى على قيد الحياة فى اللنش بالقفز فى المياه، وانتزعت إيلات الأمان الخاص بقذائف الأعماق ووجه عونى مقدمة اللنش ناحية المدمرة الإسرائيلية ليصطدم بها، فى هذا الوقت أصيب طاقم المدمرة بالذعر وأطلقت نيران المدفعية بكثافة شديدة على اللنش لينفجر على مسافة 30 مترا فقط على المدمرة لتتناثر شظاياه على سطحها.
قال الملازم أول ممدوح منيع ضابط أول لنش 501، إنهم خرجوا ثانى يوم لتجميع أشلاء الجنود والتى كانت عبارة عن خشب ممتزج بأشلاء الشهداء، والذين تبقى منهم 3 جنود فقط أحياء.
خبر استشهاد عازر:
عايدة عازر شقيقة الشهيد عونى عازر، قالت إنها تلقت خبر استشهاد شقيقها الساعة 2 ونصف من زملائه الذين جاؤوا إلى المنزل الأمر الذى سبب صدمة للجميع خاصة الأم التى تلقت الخبر كالصاعقة، مشيرة إلى أن والدتها لم تصدق الخبر فى البداية ولكن خلال تشييع جثمان عونى عازر أصرت أن تحضر الحلوى وطوال مراسم الصلاة فى الكنيسة كانت تلقى الحلوى على صندوقه المسجى بداخله عازر، وظلت تردد "إن ابنها عريس فى السماء".
الثأر للشهداء والانتقام للوطن والكرامة
منيع ضابط لنش 501، أكد أن استشهاد عونى وباقى الجنود حول الأمر إلى ثأر شخصى، بينهم وبين الإسرائيليين، لافتا إلى أنهم كانوا يرغبون فى الانتقام من أجل أشقائهم ولأنفسهم ومن استرجاع الكرامة، معتبرين أن الأمر مرتبط بالكرامة والوطن.
قال النقيب لطفى جادالله قائد اللنش 501، إنهم خلال هذه الفترة كان الجميع مترقبا لأية تحرش بحرى، واستعدت جميع القوات بتدريبات قاسية وتم تعبئة الأفراد حيث يكون هناك حالة من تغيير المعنويات لديهم، ومنحهم الثقة مجددا فى أنفسهم والثقة فى السلاح من أجل الاستعداد لأية عمل وتهيئتهم للمعركة فى أية وقت.
يوم 21 أكتوبر 1967، عادت المدمرة الإسرائيلية إيلات مرة أخرى إلى نفس المنطقة بمصاحبة تشكيل بحرى إسرائيلى لتمارس هوايتها فى التسكع على حدود المياه الإقليمية المصرية، فى هذا اليوم كان العميد محمود فهمى رئيس شعبة عمليات القوات البحرية، أبلغه ضابط الاستطلاع أن هناك كومندان مركب تجارى دخلت ميناء بورسعيد وأبلغ قائد المركب أنه شاهد على مسافة 40 ميل "مدمرتين" إسرائيليتين شمال شرق بورسعيد.
تم إبلاغ ضباط قيادة لنشات الصواريخ برفع درجات استعداد السرب الساعة 6 صباحاً يوم 21 أكتوبر، وبالفعل تواجد الجميع فى مواقعهم وتم الاستعداد للخروج فى اشتباك، وهنا كلف النقيب أحمد شاكر الملازم أول حسن حسنى باستطلاع الهدف المعادى من نقطة المراقبة البصرية الموجودة على سطح أحد فنادق بورسعيد.
قال الملازم حسن حسنى، إنه صعد إلى سطح الفندق ووجد عناصر من نقطة السلاح الساحلية، لافتا إلى أنه سألهم إذا تم رصد أهداف معادية فأكدوا له أنهم رأوا هدف ذهب وعاد مرة أخرى ثم اختفى، وخلال حديثه معهم ظهر الهدف مرة أخرى فى اتجاه شمال شرق بورسعيد، وخلال عملية استطلاعه للهدف ظهر شبح سفينة حربية تكاد تقترب من شبح سفينة مقاتلة، اخترقت السفينة المياه الإقليمية المصرية بمسافة ميل ونصف الميل ثم استدارت وعادت مرة أخرى إلى المياه الدولية.
طلب الفريق محمد فوزى من الرئيس جمال عبدالناصر شخصيا التصديق على قرار القوات البحرية، وبالفعل صدق الرئيس عبدالناصر على القرار.
مهمة تدمير إيلات:
النقيب لطفى جادالله قائد لنش 501، قال إن قائد القاعدة أرسل تقريرا بالمهمة له وللنقيب أحمد شاكر، وكان ضمن تعليمات القتال للنشات أن اللنش الأول 504 بقيادة النقيب أحمد شاكر يضرب أول صاروخ، ثم يليه صاروخ من اللنش الثانى والانتظار لمعرفة النتائج، لافتا إلى أنه فى حالة أن كان الهدف ما زال طافيا ولم يحدث فيه خسائر أو إصابات يتم قصفها بالصاروخ الثالث ثم الرابع موزعا للنشان.
خلال العملية طلب قادة اللنشان أن يتم إغلاق الرادارات حتى لا يحدث تشويش على الأجهزة من الهدف المعادى، وخلال عملية المسح بالرادار فى المياه شاهد النقيب لطفى وجود المدمرة داخل المياه الإقليمية على مسافة واحد ونص ميل وقد أصابها الصاروخ فى المنتصف، وبعد ثوانٍ من استهداف المدمرة بدأ الدخان والنيران فى الظهور خلف الأفق مثل "عش الغراب"، واطمأن الجميع أنه تم إصابة الهدف.
ولكن النقيب شاكر قائد اللنش الأول 504، قال للملازم ممدوح والنقيب لطفى لنش 501، "اتباع تحركاتى"، أى الإبحار خلفه للعودة، وكان لديهم شكوك أن هناك هدفا ثانيا ما زال موجودا فى المياه .
أبلغ قائد قاعدة بورسعيد البحرية قيادة القوات البحرية فى الإسكندرية بإغراق الهدف المعادى، ونقلت قيادة القوات البحرية الخبر إلى القائد العام للقوات المسلحة الذى نقله بدوره إلى الرئيس جمال عبدالناصر الذى عقب قائلا: "إن هذا هو أسعد خبر سمعه منذ حرب يوليو".
استدعى قائد القاعدة قائدى اللنشين لتقديم تقرير عن المعركة، وخلال اللقاء أبلغ النقيب لطفى قائد لنش 501 قائد القاعدة أن الهدف لم يختفِ رغم أن النقيب شاكر أبلغ أن الهدف اختفى وكانت الكلمات مفاجأة.
الهدف الثانى "المدمرة يافو"
طلب قائد القاعدة إعادة تشغيل الرادار الذى توقف عن العمل بناء على طلب سرب لنشات الصواريخ عند خروجهم للهجوم على المدمرة الإسرائيلية، وعند إعادة تشغيل الرادار كان فى الانتظار مفاجأة، قال العميد محمود فهمى رئيس شعبة عمليات القوات البحرية، إن العميد هاشم جاء له مسرعا يقول إن رادار قاعدة بورسعيد بعد عودته للعمل كشف وجود هدف معادٍ ثانٍ فى نفس المكان وذلك بعد حوالى ساعة ونص من تدمير المدمرة الإسرائيلية الأولى.
وهنا كلف قائد القاعدة النقيب لطفى جادالله قائد لنش 501، بالخروج خلف الهدف الثانى، وذلك بعد أن تدارك الموقف أنه قد أخبره خلال اللقاء بأن هناك هدفا لم يتم تدميره، قُبل الخبر بترحيب وفرح شديد من الضباط وجنود لنش 501، واستعدوا للقتال والدخول وسط عُش الدبابير بعد أن أثاروا غضبه بسبب العملية الأولى، وانطلق أول صاروخ من لنش 501 تجاه الهدف المعادى وسط صيحات "الله أكبر"، ورغم ظهور الانفجار على الهدف المعادى أراد النقيب لطفى أن يتأكد من تدمير الهدف تماما فأطلق الصاروخ الثانى.
طعم النصر وتكريم الأبطال:
أعطى النقيب لطفى جادالله بلاغاً إلى القاعدة بإصابة الهدف وغرقه، وصدرت التعليمات للنقيب لطفى بالإبحار مباشرة إلى الإسكندرية وعدم العودة إلى قاعدة بورسعيد، لتوقعه ضربة انتقامية ضد قاعدة بورسعيد فى صباح اليوم التالى.
احتفل الجنود بالنصر طوال رحلتهم من بورسعيد للإسكندرية وكان فى استقبالهم جميع السفن التجارية والحربية على الميناء ترسل أصوات "سارينة" للتعبير عن سعادتهم بعودة الأبطال، وبعد رسوهم على الرصيف فى ميناء الإسكندرية أخذهم الجميع بالأحضان ودموع الفرح، وكان فى انتظارهم قائد قاعدة الإسكندرية بالموسيقى البحرية وتشريفة خاصة، وكان الاستقبال حافلا.
أرسل الفريق محمد فوزى طائرة حربية إلى الإسكندرية لتحضر الأبطال إلى مكتبه فى القاهرة، ورغم أنه من المعروف عن الفريق فوزى الصرامة الشديدة ولا تعرف الابتسامة طريقها إلى وجهه الذى كان يبدو قاسياً جاداً إلا أنه استقبلهم بابتسامة عريضة على وجهه خلال لقائه بهم فى مكتبه، الأمر الذى أصاب الجميع بالذهول والسعادة لأنهم لم يرونه من قبل يبتسم.
كما أصدر رئيس الجمهورية قرارا بمنح كل الضباط والجنود الذين شاركوا فى العملية أوسمه وأنواط وأصبح إغراق المدمرتين فى 21 أكتوبر 1967م عيدا للقوات البحرية المصرية وتم تسجيل هذه المعركة ضمن أشهر المعارك البحرية فى التاريخ .
رد فعل الجيش المصرى والإسرائيلى عقب العملية
الأمر كان بمثابة كارثة ليس فقط على البحرية الإسرائيلية بل على الشعب الإسرائيلى بأكمله، والعكس تماما على الجانب المصرى بعد أن كانت البحرية المصرية والشعب المصرى بأكمله ذاق مرارة الهزيمة فى 5 يونيو من نفس العام ارتفعت معنوياته كثيرا.