الكاتبة إلهام شرشر تكتب: الدروس المستفادة من قصة الخليل [عليه السلام]
لا زال الحديث عن سيدنا الخليل مستمرًا، ولا زالت قصته مثمرة نقتطف من ثمارها، ونزداد ثباتًا كلما تعرضنا لها واستنبطنا عِبَرها ودروسها،، فقد اتفقنا منذ شروعنا في استخلاص الدروس والعبر من هذه القصة، أن الله سبحانه وتعالى لم يُنزل أمين السماء (جبريل) عليه السلام بهذه القصص على أمين الأرض (محمد) صلى الله عليه وسلم تمضيةً للوقت أو لمجرد السرد والحكاية، وإنما قصّها الله على الحبيب تسريةً لقلبه وتثبيتًا لفؤاده، لما فيها من عظاتٍ وعبر وما تحويه دروسٍ وحكم بل وما تتضمنه من مبادئ وقيم لا تضاهيها مبادئ ولا تعادلها قيم.
وقفنا في المرة السابقة مع 4 دروس مستفادة وعبر مستنبطة من قصة الخليل الذي قابل الوفاء بالابتلاء، واليوم نستكمل ما بدأناه لنقف مع دروسٍ أُخرى نتعلم منها ونتقوى بها على مرارة الدنيا وقسوة الأيام.
الوقفة الخامسة: حسبنا الله كهف الأمان
لهذه الجملة أثر السحر، فمن قالها موقنًا بها أيّده الله ونصره الله وثبته الله... لأنه اكتفى بالخالق واستعان به على كل مخلوق.
من قالها موقنًا بها زالت من قلبه الرهبة ولم يصبه وهنٌ ولا ضعف بل يقوى بالله سبحانه وتعالى....
من قالها موقنًا بها كفته كأنه دخل كهف الأمان وحلت عليه الرحمات والرضوان، فهي من المجربات بل إن شئت قُلت هي من المسلمات التي اتفق عليها الأنبياء وتعارف عليها الصالحون، فقد قالها الخليل إبراهيم حين اتفق عليه قومه وأرادوا به كيدًا فألقوه في النار، ومعلومٌ أن النار تحرق فهذا قانونٌ طبيعي، لكن الطبيعة تتغير والكون يتغير وفقًا لإرادة من يقول للشيء كن فيكون.
حينها رد الله كيدهم في نحورهم وجعلهم الأخسرين، إذ قال للنار قولًا لا يُرد، (يا نارُ، كُوني برْدًا وسلامًا على إبراهيم)، فاستجابت النار، ولم تحرق كعادتها.. بل تحول عملها من أقصى اليسار حيث شدة الحرارة إلى أقصى اليمين حيث شدة البرودة.
ومن عجيب لطف الله بالخليل إبراهيم- عليه السلام- أنه لم يقل للنار كوني برْدًا وفقط، بل أتبع البرد بسلام، يقول ابن عباس: _( لو لم يتبع بردها سلامًا لمات إبراهيم من شدة بردها).
ولعل ما يؤكد أن هذه الجملة مما اتفق عليه الأنبياء، أنها لم تكن خصيصة لإبراهيم-عليه السلام- بل كانت للحبيب صلى الله عليه وسلم.
إذ قالها المصطفى –صلى الله عليه وآله- حين جُمعت الجموع لقتال النبي والصحابة الكرام، واشتدت الحرب النفسية التي حاولوا خلالها أن يثيروا الفزع والرعب في صفوف المسلمين، أملًا أن تنتهي الحرب قبل أن تبدأ... لكن الله أيد حبيبه وألهمه قول (حسبنا الله) لتنعكس الآية ويرفع المسلمون الراية ويُفاجئ الجميع بصمود الصحابة صمودًا إيمانيا لا يهتز،، إذ انقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل، وازدادوا إيمانًا على إيمانهم وخرجوا مع الحبيب رغم قلة عددهم وكثر عدوهم.
الوقفة السادسة: قلّةٌ واثقة خيرٌ من كثرةٍ فاسدة
لم يؤمن بإبراهيم إلا زوجه السيدة سارة ولوط، لكنها قلةٌ مباركة..... فالقلة ليست أمرًا معيبًا، بل إن شئت قلت بكل يقين إن القلة الواثقة خير من الكثرة الفاسدة، ورُبّ قلة خيرٌ من كثرة،، وكم من قلّة بوركت وسُرّت، وكم من كثرةٍ نُزعت بركتها لمّا اغترت... ولا أدلّ على ذلك من أن ذكر القلة في القرآن جُلّه كان مدحًا، فقد كان المؤمنون مع نوحٍ قلّة (ومَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلّا قليل)، وقد أثنى الله على الشاكرين رغم قلتهم فقال (وقليلٌ من عبادي الشكور)، كما أوضح أن كثيرًا من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض إلا القلة المؤمنة، فقال تعالى: (وإنّ كثيرًا من الخُلطاءِ ليبْغي بعضُهُم على بعْضٍ إلّا الذينَ ءامنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالحات وقليلٌ ما هُم)، وأخيرًا وليس آخرًا فالناجين من غواية الشيطان قلّة، قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)... بينما نجد أن الكثرة المغترة قد تودي بأصحابها، وقد اغتر المسلمون بكثرتهم يوم حنين فلم تغن عنهم شيئًا وولوا مدبرين، لكن الله منّ عليهم بنصره وتأييده.
والمتأمل للقرآن الكريم ووصفه للأكثرية، يلاحظ ذلك، فالقاعدة العامة أن الخير والصلاح في البشر قليل، وأن الأكثرية على عكس ذلك، فكثير منهم لا يؤمنون، وكثير منهم لا يعلمون، وكثير منهم لا يشكرون، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تناولها القرآن الكريم، بينما نجد أن القلة هي الموصوفة بالمدح.
الوقفة السابعة: الثبات على الحق والصبر على مر الحياة
فقد تمسك الخليل – عليه السلام- بدينه، ليعلم البشرية درسًا غايةً في الأهمية ألا وهو التشبث بالحق والثبات عليه مهما كانت العواقب وخيمة، لقد صبر الخليل إبراهيم –عليه السلام- محتسبًا بعد أن لاقى ما لاقاه من الأذى، إذ ليس سهلًا على الولد أن يُفارق أبيه من أجل شيء في الكون، لكن الخليل ثبت على الحق رغم مرارته وآثر كل شيءٍ حتى مفارقة أبيه على مفارقة دينه،،، إذ كان حريصًا على نصح أبيه أشد الحرص، لكنه لما لم يجد بُدًّا من مفارقته لاسيما بعد أن أصرّ على استكباره وعناده وهدد الخليل برجمه إن لم يعدل عن دعوته.... حلّى صبره بالثبات،، كما تجلّى صبره وثباته حين أُلقي في النار ليُحرق بالنار؛ بعد إظهاره عجز أصنامهم التي لا تنفع ولا تضر.
الوقفة الثامنة: إكرام الضيف سنة نبوية
عزيزي المتأمل في قصة الخليل إبراهيم- عليه السلام- لك أن تقف مع حديث ضيف إبراهيم المُكرمين لتعلم أن كرم الضيافة سنةٌ من سنن الأنبياء توارثها الصحابة والتابعون....
فقد كان سيدنا إبراهيم عليه السلام يُحب ويعشق قرى الضيف حتى كُنّي بأبي الضيفان، وبمجرد أن رأى ثلاثة رجال في البرية استقبلهم وأحسن إليهم وأكرمهم، وسرعان ما عمد إلى عجلٍ سمين فسوّاه على النار ثم قرّبه إليهم.
نعم كان يحب قرى الضيف، إذ أكرمهم ولم يكن يعلم أنّهم ملائكةٌ،، فلمّا دخل عليهم بلا إذنٍ، ورآهم ممتنعون عن الأكل، خاف منهم ظنّا أنّهم يبيّتون له شرًّا، لكنّ الملائكة طمأنوه بأنّهم رسل الله لتبشيره بالولد الصالح، فاطمئن واستبشر، كما أخبروه عن قوم لوط أنّهم سيكونون من المُهلَكين.
عزيزي القارئ، إليك أزف أرق تحياتي وكلي أملي أن يظل عبير كلماتي يفوح حتى نلتقي في المرة القادمة لنستأنف بقية الدروس والعبر المستفادة من قصة الخليل أبي الأنبياء الذي قابل الابتلاء بالوفاء.