ثلاجة ”الأراضى ”
قبل خمس عشرة سنة، وبينما كانت السيارة تشق طريقها فى قلب الأراضى المترامية الأبعاد الشاسعة الفضاء والشمس تكسو كل شىء ذهبا وحرارة ووهيجا يبهر العيون، أطلت لافتة بسيطة من المعدن المطلى على الطريق وهى تحمل عبارة خبرية وتحذيرية موجزة "محمية...". أثارت اللافتة انتباهى فرحت أقرأها مرة أخرى باهتمام، وأنا أحس بالسعادة لوجود محمية فى تلك المنطقة التى قد يصبح لى فيها بيت لاحقا. ولم ألبث أن لاحظت سورا أنيقا متينا يمتد من خلف اللافتة فى انسياب إلى الأفق البعيد، ليحتضن أرضا تبدو للناظرين غير ممهدة تزين وجهها الكثبان الرملية هنا وهناك. وقد أثار إعجابى أناقة السور واهتمام من أقامه وقام عليه ومنظره المنمق ومتانته ومناعته، ناهيك عن امتداد السور إلى حدود الصين، على سبيل المزاح. فالمرء يحتاج بالقطع إلى سيارة لتتبع السور الحارس ما شاء الله. فمثل هذا السور لا بد وأنه كلف القائمين عليه ثروة كبيرة. فقد كنت أظن - قبل أن أبنى بيتا صغيرا والحمد لله - أن الأسوار أمر هين بسيط التكلفة، ولكن بناء سور صغير كلفنى مبلغا كبيرا حقا يكفى لشراء شقة فى حى جيد المستوى - فى ذلك الحين - مما أدهشنى لفترة طويلة وألم جيبى المتواضع.
التفت إلىّ سائق السيارة نصف التفاتة بينما أحاول إيجاد نهاية لسور المحمية، وقلت له: تصور حضرتك، هذا شىء مدهش حقا أن توجد فى هذه المنطقة محمية طبيعية. هذا من حسن حظ ساكنى هذه المنطقة، لكى لا ترتفع عقارات أمام بيوتهم وتصد عنهم الفضاء والسماء والهواء والشمس أيضا. وربما استمتعوا بقربهم من مزار هام. سكت السائق لبرهة - دون أن يرفع عينيه عن الطريق أو ينظر إلى - ثم قال: محمية؟ لعل أحدهم اخترع هذه القصة ليحتفظ بهذه الأرض لنفسه مثلجة إلى حين. رددت من فورى مستنكرا ما سمعت من السائق: أحدهم من؟ أنا لا أميل إلى تصديق التصورات المؤامراتية صراحة. وسكت السائق وسكت حتى وصلت مقصدى فترجلت وراح السائق إلى حال سبيله. ومن ذلك الحين، وكلما مررت بذات المنطقة وجدت لافتة طرق هنا أو لافتة هناك تشير إلى اتجاه "محمية."
اليوم، نزعت لافتات التحذير وبقيت لافتات الإرشاد تقبع فى بعض مواضعها التى ثبتت فيها قبل حوالى عشرين عاما، بينما هدم السور الأنيق الذى كان حارسا للمحمية المرعية وأنبتت الأرض لافتات لشركات أعمار وتطوير كثيرة تفترش عين المكان وتعلن عن عقارات للبيع ومشاريع مقبلة وتدعو المشترين والمستثمرين إلى اللحاق بركب الشراء والفوز بقطعة لم تعد محمية.