موضوع خطبة أول جمعة في رمضان: «شهر الطاعات»
خطبة الجمعة 15 مارس 2024 يؤدي المسلمون غدا صلاة أول جمعة من شهر رمضان المبارك، حيث كشفت وزارة الأوقاف أن خطبة الجمعة ستكون بعنوان: «رمضان شهر الطاعات».
وشددت وزارة الأوقاف، على جميع الأئمة الالتزام بموضوع الخطبة نصًّا أو مضمونًا على أقل تقدير، وأن يكون أداء الخطبتين معًا الأولى والثانية ما بين عشر دقائق وخمس عشرة دقيقة كحد أقصى للخطبتين معًا.
نص خطبة الجمعة
حمدُ للهِ حمدًا يُوافِي نعمَهُ، ويُكافىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ، أمَّا بعدُ،
لقد استقبلَ المسلمون ضيفًا كريمًا، وغائبًا عزيزًا، طالمَ، ا انتظرُوه، ضيفٌ إذا جاءَ أقبلَ معهُ الخيراتُ، وتنزلتْ معهُ البركاتُ، شهرٌ قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ” (ابن ماجه)، إنَّها فرصةٌ عظيمةٌ لِمَن يريدُ أنْ يعودَ إلى ربِّهِ - سبحانه - ويُحَسِّنَ فيهِ مِن خُلقِهِ، ويُقوِّمَ فيهِ اعواجَاهُ.
شُرِعَ الصيامُ لمقاصدَ عاليةٍ، حيثُ لم يقِفْ الشارعُ عندَ مظاهرِ الصومِ مِن الجوعِ والحرمانِ فحسب، ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾، بل عمِدَ إلى سمُوِّ الروحِ، ورُقِيِّ النفسِ وحفظِهَا، والصعودِ بهَا مِن الدَّركِ المادِيِّ إلى آفاقِ السموِّ الروحِيِّ، لينعمَ الصائمُ بصفاتِ أهلِ البرِّ والإحسانِ، ويسعدَ بالفوزِ بالجنانِ، والدخولِ مِن بابِ الرّيانِ، والنظرِ إلى الرحمنِ، ومرافقةِ سيدِ الأنامِ، وجماعُ مقاصدِ الصومِ في قولِهِ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ومِن هنَا كان رمضانُ موسمًا لكثيرٍ مِن الطاعاتِ، فهو سيِّدُ الشهورِ، وموسِمُ الخيراتِ، والسِّباقُ في القُرُباتِ، تكثُرُ فيه المِنَحُ والبركاتُ، وتزدادُ فيه العطايا والهِباتُ، يُضاعِفُ اللهُ فيهِ الأجرَ، ويُجزِلُ المواهِبَ، ويفتَحُ أبوابَ الخيرِ لكلِّ راغِبٍ:
العنصر الأول من خطبة الجمعة 15 مارس: رمضان شهر الطاعات
(1) رمضانُ شهرُ الجودِ والإحسانِ:
“إحلالُ خلقِ التكافلِ الاجتماعِي بينَ أبناءِ المجتمعِ، وتعويدُ النفسِ على البذلِ والعطاءِ”: مِن أعظمِ الطاعاتِ التي نشعرُ بهَا في رمضانَ إحلالُ قيمِ التكافلِ الاجتماعِي بينَ أبناءِ المجتمعِ حتى يُدركَ الأغنياءُ ما يعانيهِ الفقراءُ الذينَ يذوقونَ ويلاتَ الفقرِ، ومرارةَ الحِرمانِ، وألمَ الجوعِ، فيوجبُ ذلك تنبيهًا وحَثًّا لهُم على مواساتِهِم والإحسانِ إليهِم، وَقَدْ «رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قِيلَ لَهُ: أَتَجُوعُ وَبِيَدِك خَزَائِنُ الْأَرْضِ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الْجِيَاعَ» (الموطأ)، ورحمَ اللهُ الإمامَ القسطلاني حينَ كتبَ: «وإنَّمَا يجدُ ذوقَ التعبِ مَن نازلَهُ، ويعرفُ قدرَ الضررِ مَن واصلَهُ، وفي مثلِ ذلك» قِيلَ:
لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ … وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا
لَا تَعْذِلِ الْمُشْتَاقَ فِي أَشْوَاقِهِ … حَتَّى تَكُونَ حَشَاكَ فِي أَحْشَائِهِ
ولهذا حثَّ نبيُّنَا ﷺ على البذلِ والعطاءِ مِن أجلِ إدخالِ الفرحِ والسرورِ على المحتاجين، وليس في رمضانَ فحسب فعَنِ النُّعْمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (مسلم)، بهذا يصبحُ المجتمعُ قويًّا متماسكًا صامدًا لا تزعزعُهُ الفتنُ ولا تخلخلُهُ الأزماتُ ولا تؤثرُ فيهِ الضرباتُ التي توجَهُ له، ولذا كان مِن أخصِّ صفاتِ نبيِّنَا ﷺ أنَّهُ يُكثرُ مِن العطاءِ والإحسانِ في هذا الشهرِ الكريمِ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» (البخاري).
يقولُ الإمامُ ابنُ الجوزِي: (وَإِنَّمَا كَثُرَ جودُهُ - عَلَيْهِ السَّلَام- فِي رَمَضَانَ لخمسةِ أَشْيَاء: أَحدُهَا: أَنَّهُ شهرٌ فَاضلٌ، وثوابُ الصَّدَقَةِ يتضاعفُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ شهرُ الصَّوْمِ، فإعطاءُ النَّاسِ إِعَانَةً لَهُم على الْفطرِ والسحورِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ إنعامَ الْحقِّ يكثرُ فِيهِ، فَأحبَّ الرَّسُولُ أَنْ يُوَافقَ ربَّهُ - عزَّ وَجلَّ- فِي الْكَرمِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ كَثْرَةَ الْجُودِ كالشكرِ لتردادِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ فِي كلِّ لَيْلَةٍ، وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ لمَّا كَانَ يدارسهُ الْقُرْآنَ فِي كلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ زَادَتْ معاينتُهُ الْآخِرَة، فَأخْرجَ مَا فِي يَدَيْهِ مِن الدُّنْيَا) أ.ه.
إنَّ اللهَ سيدفعُ بالصدقةِ عنكَ مِن المصائبِ ما لو عرفتَهُ لأنفقتَ للهِ في الليلِ والنهارِ، فضعْ ضمنَ برنامجِ رمضانَ الصدقةَ، فتصدقْ، وأخرجْ زكاةَ مالِكَ، قالَ ربُّنَا: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، والمالُ ظلٌّ زائلٌ، وعاريةٌ مسترجعةٌ، والمُؤمنُ لا يستقِلُّ شيئًا، فقد يسبقُ القليلُ الكثيرَ، ومِن أعظمِ الصدقاتِ إطعامُ الطعامِ، قال ﷺ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» (الترمذي وحسنه)، وكان ابنُ عُمرَ رضي اللهُ عنهمَا “يصومُ ولا يُفطِرُ إلّا معَ المساكين” جبرًا لخاطرِهِم، ولعلَّهُ تصيبُ دعوةُ أحدِهِم، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ» (ابن ماجه).
العنصر الثاني من خطبة الجمعة15 مارس: رمضان شهر الطاعات
(2) رمضانُ شهرُ القيامِ ومدارسةِ القرآنِ الكريمِ:
نزلَ القرآنُ الكريمُ في رمضانَ، قال تعالى:﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، وكان سلفُنَا الصالحُ إذا دخلَ عليهم رمضانُ فرغُوا جلَّ وقتِهِم لقراءةِ القرآنِ، يقولُ الإمامُ الزهرِي: «إذا دخلَ رمضانُ فإنّمَا هو لقراءةِ القرآنِ، ولإطعامِ الطعامِ»، اجعلْ لنفسِكَ في رمضانَ وردًا معلومًا لقراءةِ القرآنِ حتى وإنْ كنتَ لا تحسنُ القراءةَ فحاولْ وجاهدْ نفسكَ فلن تُحرَمَ الأجرَ، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ» (مسلم)، فهنيئًا لِمَن داومَ على قراءةِ القرآنِ وهو صائمٌ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: «فَيُشَفَّعَانِ» (أحمد).
أخِي الحبيب: احرصْ على أداءِ الصلواتِ الخمسِ في أوقاتِهَا، وحافظْ على صلاةِ القيامِ التي هي سببٌ في رفعِ درجتِكَ، وجبرِ تقصيرِكَ، فقد أخرجَ الإمامُ أحمدُ بسندٍ حسنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ حَيٌّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا، أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ ﷺ: «أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ؟»، فلنُقبلْ على اللهِ بقلوبٍ حاضِرةٍ، ونتدبّرْ آياتِهِ في الصلاةِ والقيامِ، قالَ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (البخاري)، ولتحرصْ أنْ تكملَ التراويحَ مع الإمامِ حتى تُكتبَ في القائمينَ، قال ﷺ:«مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» (ابن حبان)، ولنكثرْ مِن التضرعِ إلى اللهِ بِأَنْ يُعينَكَ على صيامِه واسْتغلالِه، فرمضانُ شهرُ الدعاءِ وحينمَا ذكرَ اللهُ أحكامَ الصيامِ قالَ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، فصلاةُ الليلِ كنزُ الأبرارِ، وموئلُ المتقينَ الأخيارِ، يتعبدُون اللهَ بهَا العامَ كلَّهُ، فإذا كان رمضانُ عَظُمَ اجتهادُهُم، وكَثُرَتْ طاعتُهُم، وزادَتْ صلواتُهُم.
العنصر الثالث من خطبة الجمعة 15 مارس: رمضان شهر الطاعات
(3) رمضانُ فرصةٌ عظيمةٌ للتدريبِ على أمهاتِ الأخلاقِ:
الصيامُ يدربُ المسلمَ على الصبرِ، وضبطِ النفسِ عن النظرِ أو التطلعِ إلى الحرامِ أو التكلمِ بمَا لا يُرضِي الله، فهو أشبَهُ بالساترِ الذي يقِي صاحبَهُ مِمَّا يضرُّهُ ويُؤذِيه، فعن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«قَالَ اللهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» (متفق عليه)، فالصومُ قد اشتملَ على أنواعِ الصبرِ الثلاث: الصبرُ على الطاعةِ وعلى المعصيةِ وعلى قدرِ اللهِ المتمثلِ في الجوعِ والعطشِ، قال ﷺ: «وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» (أحمد)، ولذا كان حظُّ الذي يرخِي لنفسِهِ العنانَ، ويطلقُ لنظرِهِ وجوارحِهِ اللجامَ فتتناولُ ما حرّمَ اللهُ أنَّهُ ليس مِن صيامِهِ إلَّا الجوعُ والعطشُ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» (أحمد بسند حسن).
كمَا أنَّ رمضانَ فرصةٌ للتغيرِ إلى الأفضلِ، فمَن كان مفرطًا في طاعةٍ فعليهِ أنْ يستدركَ ما فاتَهُ، إذْ العبادةُ في هذا الشهرِ الكريمِ ليسَ كغيرِهِ مِن الأشهرِ، فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ» (ابن خزيمة)، ومَن كان على استقامةٍ فليستكثرْ، ويسألْ اللهَ الثباتَ، أمَّا أنْ ينقضِي رمضانُ والمسلمُ على حالِه كما كان قبلَهٌ فأنتَ على خطرٍ عظيمٍ، وعليكَ أنْ تقفَ مع نفسِكَ وتراجعَ حساباتِكَ قبلَ أنْ يأتيَ عليكَ وقتٌ تندمُ على ما فرّطتَ وقصَّرتَ.
كما أنَّ شهرَ رمضانَ يدربُ المسلمَ على الدقِّةِ، واحترامِ المواعيدِ، فالمسلمونَ يمسكونَ عن الطعامِ والشرابِ في وقتٍ واحدٍ - حسب التوقيت- ويفطرونَ في ميعادٍ واحدٍ بلا تقديمٍ أو تأخيرٍ، وهذا مِن شأنِهِ أنْ يربيَ المسلمَ على احترامِ العهودِ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ مُؤَذِّنَانِ بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا» (مسلم)، فتأمل والزم.
خطبة الجمعة 15 مارس: رمضان شهر الطاعات
أخي الكريم: إذا أردتَ اغتنامَ هذا الشهرِ فلا بُدَّ أنْ تضعَ لنفسِكَ خُطةً تسيرُ عليها، وبرنامجًا لا تحيدُ عنهٌ في قراءةِ القرآنِ، وصلةِ الأرحامِ، والصدقةِ وأعمالِ البرِّ، لأنَّ بعضَ الذنوبِ لا يكفرهَا إلّا الصوم، قال ﷺ يَقُولُ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» (مسلم)، فلتحرصْ إذا على أنْ تغتنمَ تلك الفرصةَ قبلَ رحيلِكَ عن الحياةِ، وإلّا أينَ أحبابُكَ وإخوانُكَ الذين كانُوا معكَ في رمضانَ الماضِي؟! لقد تركوا الدنيا، وهم الآن بينَ يدي اللهِ، ويتمنَّى الواحدُ منهُم أنْ يرجعَ إلى الدنيا ليصومَ للهِ، أو ليصلِّي ركعةً للهِ، أو ليفتحَ كتابَ اللهِ، أو ليتصدقَ على فقيرٍ، أو ليصلَ رحمَهُ، قالَ تعالَى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ومِن كثرةِ ما تجتمِعُ أصولٌ مِن العباداتِ في رمضانَ، ويكثُرُ الخيرُ ويُجدَّدُ فيه الإيمانُ كان مَن يخرجُ منه ولم يُغفرْ لهُ في عدادِ المحرومين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ» (الترمذي).
أخي الكريم: إنَّ مِن الغفلةِ كلّ الغفلةِ أنْ يجعلَ الإنسانُ مِن أيامِ رمضانَ ولياليهِ كأيامِ العامِ كلِّهَا، فلا يغيرُ مِن حياتِه شيئًا، ولا يتقربُ إلى اللهِ بتوبةٍ، ولا يعزمُ أبدًا على قراءةِ القرآنِ، ولا يُرَى في المساجدِ لا فِي صلاةِ تراويحٍ ولا فِي غيرِهَا، كلُّ هذا - والعياذُ باللهِ- مِن الغفلةِ والرانِ على العبدِ، ينبغِي إخلاصُ النيةِ، وعقدُ العزمِ، وإقامةُ العملِ، والصبرُ والمصابرةُ، طلبًا للأجرِ، ودفعًا للوزرِ، وإرضاءً للربِّ جلَّ جلالُهُ قالَ ﷺ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» (مسلم).
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنَّهُ أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، وأنْ يجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، ووفقْ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.