النبي محمد.. «رجل الدعوة والدولة»
مع مطلع شهر ربيع الأول ... تستجمع الذكريات فيفوح منها عبق مقبل من بعيد ومن قريب بل ومن كل جانب .. يحمل فى طياته أسعد خبر... سمعته البشرية فى تاريخها الطويل.... وإلى أن تقوم الساعة....
فى هذا الشهر ولد خير من يمشى على الأرض.. وخير من وطئت الدنيا قدماه... البشير النذير.. السراج المنير... الرؤوف الرحيم..
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو والحظيرة تزدهى
والمنتهى والسدرة العصماء
وحديقة الفرقان ضاحكة الربا
بالترجمان شذية غناء
والوحى يقطر سلسلا من سلسل
واللوح والقلم البديع رواء
الذى جاء ذكره فى الكتب السماوية حاملا البشرى للوجود الإنسانى .. إلى أن تحين لحظة النهاية.. نهاية دنيا الزوال...
وجاء وصفه فى التوارة ببعض صفاته فى القرآن ... «يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا»، وحرزا للأميين، أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن لا إله إلا الله ، فيفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا»...
بل لقد عبر عن نفسه «صلوات الله عليه» وكشف عن مكنون فضل الله عليه بقوله: «سأنبئِّكُم بأوَّلِ أمري... دعوةُ أبى إبراهيمَ ... وبُشرى عيسى... ورُؤيا أمِّيَ... رأَت حينَ ولدَتنى كأنها خرجَ منها نورٌ أضاءَتْ لَه قصورُ الشَّامِ»...
قيل فما هى دعوة الخليل إبراهيم «أبو الأنبياء»؟؟؟!!!..... قال ما جاء فى قوله تعالى على لسان إبراهيم «عليه السلام»: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ» سورة آل عمران....
قيل فما هى بشرى عيسى؟!!!...... قال ما جاء فى قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَد» سورة الصف...
قيل فما هى رؤيا آمنة ؟؟!!.... قيل : كان مناما رأته حين حملت بي.. وقصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم...
وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام... ولهذا تكون الشام فى آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ... وبها ينزل «عيسى ابن مريم»...
ولهذا جاء فى الصحيحين: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم كذلك».....
لقد كان مولد خير الورى «صلوات الله وسلامه عليه» مبعث نور أبدا لن ينطفئ إلى أن تقوم الساعة.. ومن المعلوم أن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ولد فى عام الفيل الذى كف الله سبحانه وتعالى «أبرهه» عن النيل من بيته الحرام ....
كما أن مولده «صلوات الله عليه» كان مصدر رحمة لكل من حوله.. بل بكل الكائنات على اختلاف ألوانها وأشكالها وأحجامها وطبيعة وجودها...
كانت بحق ساعة إجلال وإكرام... سعد بها الوجود بأسره.. كيف لا؟؟!!!... وهى تحمل بين طياتها مولد رسول الله «صلى الله عليه وسلم»...
لقد كانت بحق ساعة رحمة.. ساعة رأفة.. عمت البشرية.. وسواها من المخلوقات.. يقول تعالى:ِ «قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ» سورة التوبة...
لقد كانت بحق مشعل نور غطا الوجود بأسره... بما يحمل بين طياته من العلم والهداية ... قال تعالى: «لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين» سورة المائدة...
كم أنا سعيدة أننى أتناول فى مقالى السياسى لب الدين وجوهره... وكيف؟؟!!... بالحديث عن الحبيب النبى المصطفى المختار «صلى الله عليه وسلم»...
كم أنا سعيدة وإن كنت حزينة .. اعتذر له «صلوات الله عليه» أمام الدنيا كلها على تقصيرى فى حقه... حين شاركنى فى حبه والصلاة عليه بعد ذكر ربى وربه هموم الدنيا والحديث عنها ... عزائى فى ذلك أننى أتحدث عن هموم الوطن .. الوطن الذى أوصانا به ليكون تمام وكمال جزء عظيم من الإيمان....
عذرا رسول الله ... سامحنى يا حبيبى ... سوف أتواصل معك ثانية قريبا.. كلى وبعضى معك ومع ربك.. دون أن يأخذنى منكما ثانية لا حتى هموم الوطن ولا حبه... لأننى استغيث بك هذه الأيام.. بعد ملاذى بالله سبحانه وتعالى أن تهل البركة على ارض المحروسة... على أرض أهل بيتك.. راجية شفاعتك فى هذه الأيام المباركة.... راجية شفاعتك أن يعود المصريون لأنفسهم... التى ضاعت وغابت حين انشغلت شأنها شأنى عن الصلاة عليك وعن ذكرك وذكر ربك... والرد على أعداءك ... بالتفرغ الكامل لكما .. بإعلاء الأصوات فى هذه العبادات.. التى ما كان يؤرق أعداءك سواها .. وقد تمكنوا اليوم بإشغالنا عنكم بالفعل... بأسباب الخلاف على أشكاله .. لتكون هذه هى النتيجة المرجوة ضعف الإيمان الذى وصلنا إليه....
ومن الصعوبة البالغة أن نجمل فى سطور أو نحيط فى صفحات سجل الحبيب «صلى الله عليه وسلم» بما يحمل من جوانب العظمة... التى تجاوزت كل حد... اخترقت كل سد.. قال تعالى : «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» سورة الكهف...
فالحديث عن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» أمر شاق للغاية ... لكثرة الزوايا التى من الممكن أن نتناولها عنه وعن شخصه الكريم.. وعن أثره الذى تركه للإنسانية ومازال يذكر وإلى أن تقوم الساعة... ويكفينا شرفا أن نجوب فى ساحته ... وأن نتعطر بذكر اسمه ... وببث منهجه ورسالته...
لذلك يشرفنى أن أتحدث عن نقطة محددة .. جالت فى ذهنى هذه الأيام ... مع كثرة المشكلات التى تواجهها الأمة الإسلامية و القضايا التى كادت أن تغرق فيها ......
(علما بأن هذه السطور لم تكن الأولى فلقد كتبت عنه «صلى الله عليه وسلم» مؤلفات عدة... حاولت من خلالها أن أستجمع بعض من جوانب عظمته من خلال سيرته النبوية الشريفة...
أما عن هذه المرة .. أكتب بصيغة أخرى .. ومن زاوية جديدة... فلقد اخترت عنوانا يحمل سؤالا وهو :
هل كان الرسول الكريم رجل دولة؟؟!!....
لقد كان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» رجل دعوة بكل ما تحمله الكلمة من مسئوليات تتعلق بتبعاتها ... فلقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة حتى كشف الله به الغمة... فتركها على المحجة البيضاء ليلها كأنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك...
وبينما يجول هذا السؤال فى خاطرى .. توقفت عند كلمة عبر بها أحد المستشرقين... عما اتصف به رسول الله من قدرات وعرف عنه من مهارات .. فقال فى حقه «ستروثمان»: « الإسلام ظاهرة دينية سياسية، إذ أن مؤسسه كان نبيًّا، وكان سياسيًّا حكيمًا أو رجل دولة»....
مما دفعنى إلى التوغل فى معرفة الصفات التى تحلى بها والقدرات التى اتصف بها والمهارات التى جبل عليها... والمواقف التى تشهد له على أنه بحق رجل دولة بكل ما تقتضيه الكلمة من معان...
وخاصة أن هناك كما كبيرا من العلماء والحكماء بل ومن المستشرقين الذين أيدوه على أن النبى محمد «صلى الله عليه وسلم» بحق رجل دولة ... ومن أمثالهم:
«فتزجرالد» الذى قال: « ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسى أيضًا»...
«نلينو» : « لقد أسس محمد فى وقت واحد دينًا ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته»...
« «توماس أرنولد»: «كان النبى فى نفس الوقت رئيسًا للدين، ورئيسًا للدولة
ويزيد «شاخت» فى وصف الإسلام... «بأنه دين بالمفهوم المعروف فى الغرب... كما كان يمثل أيضا نظريات قانونية وسياسية»...
أما «ماك دوناك»... فيقول: «هنا (يقصد المدينة) تكونت الدولة الاسلامية الأولى ووضعت المبادئ الأساسية للقانون الإسلامي»...
كما أن «جب» أكد على طبيعة الإسلام التى تجمع بين العقائد الدينية والشعائر التعبدية وبين تنظيم المجتمع وبين تحديد العلاقات بين أفراده... فيقول: «إن الاسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل .. له أسلوبه المعين فى الحكم وله قوانينه وأنظمته الخاصة»... ولعل هذه المقولات التى اعتمدنا فيها على صنف من المستشرقين وقف أمام شخصية الرسول «صلى الله عليه وسلم» منبهرا بها ومتأثرا ... تؤكد طبيعة الإسلام من ناحية وما اتصف به الرسول من كونه رجل دولة بحق من ناحية أخرى...
وإذا حاولنا أن نكشف عن بعض المواقف التى تجسد هذه الحقيقة فإنها من الكثرة التى يصعب علينا أن نحصيها لذا سنقتصر على بعض منها..
الهجرة النبوية الشريفة... والتى كانت بحق كاشفة عن مظهر من مظاهر رجل الدولة وبها بدا النبى «صلى الله عليه وسلم» طورا جديدا لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء والرسل...
هنا يبدأ التطور السياسى...
لقد أراد الله سبحانه وتعالى لمحمد أن يكون الرسول السياسى والمجاهد والفاتح ورجل الدولة الذى وضع أسس الحضارة الكفيلة بسعادة العالمين... فكل الأحداث التى جرت فى الهجرة من تخطيط وإعداد وتوزيع للأدوار كشفت عن مظهر من مظاهر رجل الدولة الذى يضع الأمور فى نصابها ويدرك إمكانات من حوله.. ويسعى إلى حسن توظيفها ... وهذا ما فعله النبى «صلى الله عليه وسلم» وهو ما يعرفه الجميع...
أما ما كان بعد الهجرة من بناء الدولة الذى قام على أسس محددة تتوافق مع طبيعة هذا الدين وما يدعو له .... فلقد حرص النبى «صلى الله عليه وسلم» على بناء المسجد والذى يمثل العنوان لدولة الإسلام... والذى تحققت بدورها فى المدينة...
المسجد الذى كان له دور عظيم فى نشر الدعوة وفى تلقى دروس العلم وفى جمع الناس ... فكان بمثابة مجلس للشورى ودار للقضاء ومركزا لاتخاذ القرارت وجامعة لمختلف العلوم ومدرسة لتحفيظ القرآن صغارا وكبار ودارا للفتوى وبيتا للتضامن الاجتماعى بمفهومه الشامل والواسع والكبير على خلاف ما آلت إليها المساجد الآن...
ويا حزنى لرسول الله لما وصل إليه المسجد من أنه أصبح بوقا للتفريق وتشتيت الأمة .. فلقد تسبب أعداء الإسلام فى سلب المسجد لدوره الحيوى والمحورى شكلا وموضوعا ... شكلا كبيتا للمسلمين ومظهرا لمظاهر الحضارة الإسلامية... وموضوعا بأن أصبح قنبلة موقوتة ممنوع الاقتراب ممنوع اللمس حين تمكن من النفوس العميلة أو النفوس الجاهلة بأمور الدين فأصبح قاصرا على إقامة الشعائر الدينية....
كما سعى النبى «صلى الله عليه وسلم» إلى تحقيق مبدأ المساواة والإخاء بين المسلمين.. وخاصة أنهم كانوا من طبقات متباينة والبون بينهم كبير... كما كان فيهم الأبيض والأسود...
ومن المعلوم أن حروبا ضروسا قد وقعت بين القبائل العربية التى شاء الله تعالى لها الإسلام .. فكان من السياسة الضرورية والحكم النبوية البالغة أن يؤسس للدولة من خلال مبدأ الإخاء... حتى تذوب كل أشكال الصراعات التى كانت يدور رحاها بين هؤلاء ... سواء كانت صراعات دموية مبعثها عصبيات قبلية أو كانت صراعات طبقية تقسم المجتمع إلى أسياد وعبيد...
لقد نجح رجل الدولة النبى محمد «صلى الله عليه وسلم» فى صهر كل هذه المقومات المتباينة فى بوتقة الإسلام ليصبح الجميع على قلب رجل واحد .. «لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى»....
لقد أزالت الدولة الإسلامية بقيادة زعيمها «صلوات الله عليه» كل أشكال التمييز والعنصرية والهمجية والجاهلية التى كانت قبل الإسلام..
وبكل أسف هذا ما نفتقده اليوم... خاصة حين يحاول أعداء الإسلام لنيل من النبى محمد.. ولا أدرى كيف هذه الجرأة وهذا الحد من المغالطة .. ومحاولات النيل .. أو حين يحاولون أن يصفوه بما ليس فيه أو أنهم يحاولون أن يسقطوا عليه عيوبا ليست من الحقيقة فى شىء حين يصفونه بما لا يليق .. غافلين خطاياهم وقصورهم وعنصريتهم ... حيث إن النبى حقق ما عجزت عنه المحافل الدولية ومجلس الأمن ومجالس حقوق الإنسان ومنظمات العفو الدولية .... وغيرها من المؤسسات التى تدعى أنها تعمل على تحقيق مبدأ المساواة ... تلك الكلمة التى يتشدقون بها على بطون خالية وأنفس غاوية....
سلمت وغنمت وبوركت يا خير الخلق والبرية .. يا من جمعت الأمة على صعيد قلب رجل واحد.....
فكنت أنت مهما كان من أحقاد أعدائك واستهزائهم... سبحان الله كلما حاولوا النيل منه ... كلما طالهم الانقسام والشقاق والفشل .. وأوضح صور اللاإنسانية التى يحاولون إلصاقها به هو «صلى الله عليه وسلم»...
وإذا كانت الهجرة قد حققت للإسلام الدولة .. فقد استطاعت من خلال شخصية النبى «صلى الله عليه وسلم» القائد السياسى المحنك الذى احتوى سائر الخلافات والفجوات والفرقات التى كانت تجمع بين أصحابه إلى أكثر من ذلك...
فقد استطاع أن يحقق مبدأ عالميا وهو التعايش السلمي... أو فيما يعرف الآن «بالمواطنة.. فأقام من المواثيق والعهود مع الطوائف التى كانت تعيش فى المدينة بخلاف المسلمين ما يحقق الأمن والاستقرار والنماء لأهل المدينة.... فاتخذ من الإجراءات والخطوات ما تحقق «السلم الاجتماعي» بمفهومه الشامل العام الذى يتحقق معه الضمان الاجتماعى لكل فرد يعيش على أرض الإسلام بالمدينة... وعرفت هذه الوثيقة المهمة والبالغة الخطورة بـ «وثيقة المدينة» أو ما تعرف به الآن بدستور المدينة.... والتى هى نص دستورى مهم... فى غاية الأهمية ...
كما استطاعت تلك الوثيقة أن تنظم العلاقة بين مواطنى المدينة بمختلف دياناتهم ... وقبائلهم وأعرافهم...
وتعجبنى هذه الكلمات التى سجلها الدكتور ضياء الدين الريس فى كتابه «النظرية الإسلامية السياسية».. والتى تكشف بحق عن حقيقة الإسلام كدين ودولة ... وتؤكد على شخصية صاحبها «صلوات الله وسلامه عليه» الذى جمع بين القيادة الدينية والقيادة السياسية... فيقول رحمه الله: «لم يعد هناك شك أن النظام الذى أقامه رسول الله «صلى الله عليه وسلم « والمؤمنون معه بالمدينة إذا نظر إليه من وجهة مظهره العملى وقيس بمقاييس السياسة فى العصر الحديث يمكن أن يوصف بأنه سياسى.. بكل ما تؤديه هذه الكلمة من معانى»....
بل إن من المفكرين الإسلاميين من يعود بالأحداث إلى الوراء ويجعل ما أقامه النبى فى المدينة قبيل حجرته من بيعتين اللتين عرفتا فى التاريخ ببيعة العقبة الأولى والثانية كانتا أكبر دليل على شخصية الرسول الكريم «رجل الدولة»...
لذلك لا يمارى أحد فى أن البيعتين كانتا نقطة تحول فى حياة الإسلام ولم تكن الهجرة إلا إحدى النتائج التى ترتبت عليهما ... وإذا كان موقف الهجرة وما سبقه من أحداث ولحقه من أثار يكرس لوصف النبى بأنه رجل الدولة ...
فهناك موقف آخر... تكشف الغطاء عن جانب من شخصيته «صلى الله عليه وسلم» .. ذلك الموقف الذى أبرزه «إبرام عقد صلح الحديبية» الذى كان مثالا يجسد المهارة السياسية والقدرات النبوية فى التفاوض حتى أرغم قريش على إتمام صلح الحديبية...
ومن المعلوم أن النبى «صلى الله عليه وسلم» انتوى أداء العمرة هو ومن معه من أصحابه الذين بلغوا الفا وأربعمائة ... وكان معهم الهدى وقد ارتدوا زى الإحرام وكانوا فى شهر من الأشهر الحرم... الأمر الذى دفع المشركين إلى عدم السماح لهم بدخول مكة وأداء هذه العبادة المقدسة ....
ومن هنا بدأت المفاوضات بين النبى وبين صناديد الشرك.. ورغم عدم استيعاب بعض الصحابة الكرام الشروط التى تم الاتفاق عليها إلا أنها أبرزت وبشكل واضح عن سياسى ماهر استطاع بما لديه من ثقل سياسى وعمق إيمانى أن يحقق ويحرز نجاحا كان له أثره فيما بعد....
ولعل هذا يدفعنا إلى أن نقف مع درس من دروس هذه الحادثة.... وهو الثقة فى القيادة والانصياع لها....
فلقد كشفت الحادثة عن طبيعة القائد المحنك الذى استوعب جنوده الذين لم يدركوا الغايات من الإجراءات التى اتخذت والبنود التى سجلت بشأن الصلح....
لقد أعطى النبى مثالا حيا فى هذه الحادثة أيضا إلى صفة جديدة لم يعهدها الناس من قبل... وهى حرصه البالغ على التعايش السلمى ونبذه للعنف والحرب... كما أبرز عن هجوم بسلاح لم يعهد من قبل وهو «سلاح السلام»...
فكان هجوم النبى بالسلام عمقا لم يستوعب من بعض ممن كانوا معه ... ولقد سجل القرآن الكريم لنبيه «صلى الله عليه وسلم» وأشاد بما كان يمتمع به من كفاءة عالية على حسن الإدارة والصبر والتحمل للآخرين... فأعطى النموذج والقدوة فى القيادة الناجحة يقول تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فاتوكل على الله»...
كانت هذه أسلحة نبى الإسلام.. نبى السلام.. الذى يتهم ليل نهار أن دعوته قامت على السيف.. فلقد اتخذ من التعايش السلمى منهجا ومنهاجا وسبيلا ومن السلام درعا واقيا لتحقيق ذلك التعايش السلمى وما جرى لأمته من بعده إنما لبعدهم عن منهجه هذا.. ببعد السنين... بعد يفوق عدد الليالى والأشهر والأحداث... إلى حد أننى أشعر أن ما كان من الرسالة بدأ يتلاشى ويدخل فى طى النسيان ... بما أصبح بين أبناء أمته من صراعات ودماء تفوق ما بين أبناء الأمة وما بين أعداء الإسلام والسلام... أعداء القرآن .. أعداء الله على الأرض...
لقد أجملت تلك الآيات الصفات التى كان يتحلى بها النبى فى قيادته للأمة والتى جمع فيها بين الحزم وبين الرأفة والرحمة... كما كشفت عن مبدأ عظيم من المبادئ التأسيسية للفكر السياسى المعاصر وهى الديمقراطية «فيما عرف لدينا بالشورى» التى حققها النبى فى مختلف الظروف فى السلم والحرب على مستوى الآحاد وعلى مستوى الأمة...
ولم يكن الخباب بن المنذر عنا ببعيد الذى سأل النبى فى غزوة بدر عندما أرادوا النزول بجوار بئر بدر... قال لرسول الله : أهو أمر أنزلك الله أياه أم إنها الحرب والرأى والمكيدة؟؟!!... فقال له النبى: «بل هو الحرب والرأى والمكيدة»..
كما أن هذه الشورى تحققت فى مواقف أخرى كثيرة... من حياة النبى «صلى الله عليه وسلم» مع أصحابه ... ومن أمثال ذلك حفر الخندق الذى كان مقترحا قدمه أحد أصحاب النبى الذى عرف عنه بأنه صاحب خبرة نوعية فى هذا الأمر....
لقد استطاع النبى «صلى الله عليه وسلم» بما أوتى من صفات أن يجذب أصحابه حوله وينقادوا جميعا إليه ولعل السر فى هذا الانقياد التام له «صلى الله عليه وسلم» أنه كان يكمن فى بساطته مع دقته وصدقه فى الوعود وتفانيه وإخلاصه لمن حوله وشجاعته مع ثقته المطلقة فى ربه وفى رسالته...
أما الشورى هذه الأيام فقد فهمت على غير حقيقتها واستخدمت فى غير معناها لأنها تقتضى أن يتقدم الخبراء والمختصين دون سواهم ممن ليس لهم دراية أو معرفة بدقائق الأمور... وحقائق الأشياء.. فيقومون بمناطحة ومنافحة المسئولين وأصحاب اتخاذ القرار... مما يفسد الأمر برمته ... ولا يتبقى سوى الفوضى والعبث الفكرى ومن ثم ضياع الحقيقة وتكون النتيجة غياب القرار....
هذه هى الصفات التى مهدت الطريق أمام النبى «صلى الله عليه وسلم» لتخطى المصاعب وتجاوز الأزمات»...
لذلك نقول : إذا كان الإسلام دين ودولة فلقد كان حامل الرسالة النبى محمد «صلوات الله عليه» رجل دولة .... ولقد كثرت الآيات البينات التى أكلمت القواعد وبينت بنود التعاقد بين الرعية وبين الرعاه من أبناء الأمة ... وبين الأمة وبين أولى الأمر منها ....
فيقول الله سبحانه وتعالى:» وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ «ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» سورة الشورى...
وكذلك قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» سورة النساء.....
لقد استطاع النبى «صلى الله عليه وسلم» أن يحقق المعادلة الصعبة والتوازن الفريد فى كل ما تعرض له من مواقف على المستوى الإنسانى أو الميدانى ليضرب المثل فى قدرة القائد الفذ فى حل المشكلات وتجاوز الأزمات ولعل هذا ما أشاد به المفكر والكاتب السياسى المعروف «برناردو شو» عندما قال: «ما أحوج العالم اليوم لرجل كمحمد يحل مشكلاته المختلفة وهو يشرب فنجانا من القهوة» ....
وفى ظل ما تعانيه مصر والعالم الإسلامى والعربى من أزمات ومشكلات تكاد معه أن تطمس هويتها وأن تسقط .... سواء كانت مشكلات إقليمية أو داخلية فأولى بالأمة فى هذه المحن والإحن الشديدة أن تعيد النظر والبصر.. فى استلهام ما كان عليه النبى «صلى الله عليه وسلم» وأمته فى الخروج من الأزمات وتجاوز النكبات...
فلقد جعله الله تعالى القدوة الحسنة والأسوة الطيبة فى كل شأنا من شئون حياتنا... قال تعالى:»لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر...»....
فأولى بالأمة أن تستلهم من حياة نبيها ومن قيادته الفذة للأمة سبل العودة إلى ما كانت عليه من وحدة واتحاد وقوة واعتصام ومناعة وتماسك...
وهذا غيض من فيض حياة نبينا محمد «صلى الله عليه وسلم» كرجل دولة» بعد أن تفوق كرجل دعوة....