اللصوص الذين اغتنوا وأنكروا
قال الأستاذ الألمانى وهو يمط خطوته أمام الطلبة الذين امتلأ بهم مدرج الدراسة فى تلك الجامعة الألمانية الكبيرة: انظروا إلى تلك الخارطة! انظروا إلى إسبانيا أو الأندلس كما كان الغزاة العرب اللصوص يسمونها وقتما احتلوها، لقد جاء اللصوص من شبه الجزيرة العربية إلى الأندلس مرورًا بمصر وسائر دول شمال أفريقيا حتى المغرب ثم عبروا إلى إسبانيا، ولكننا استرددناها منهم، لقد كان أولئك العرب لصوصًا، هكذا وصف أستاذ مادة التاريخ الألمانى الفاتحين العرب للأندلس بأنهم كانوا لصوصًا، فإذا كان العرب لصوصًا - لأنهم احتلوا إسبانيا– فقد ينصرف هذا الوصف إلى آخرين كثيرين أيضًا احتلوا دولًا كثيرة حول العالم واستولوا من ثرواتها وخيراتها على ما يشاؤون وفعلوا بأراضى تلك الدول الخاضعة لهم وبسمائها وببحورها ما حلا لهم وما خطر على أذهانهم، حتى رحلوا أو أجبروا على الرحيل من غالبية البلاد المحتلة مدحورين.
ولا أدرى لماذا غاب عن ضمير الأستاذ الألمانى هذه المفارقة التى لا ينبغى أن تغيب عن خاطر باحث يعيش على الدراسة والتنقيب عن الحقيقة، خاصة أن العالم فى الألفية الثالثة، وقد تعرضت دولنا للاحتلال مرات كثيرة ومن دول كثيرة أيضًا.
ما قاله الأستاذ الألمانى لتلاميذه عن لصوصية الغزاة العرب فيما مضى، واصفًا دخول المسلمين إلى الأندلس، يردده أساتذة آخرون فى بلاد أوروبية أخرى، ولكنهم لا يذكرون لتلاميذهم شيئًا عن سرقات المستعمرين الذين نهبوا بلادًا كثيرة وسلبوها حقها فى النمو والتقدم وصعدوا على أكتافها درجات كثيرة إلى أعلى السلم الحضارى فى مجالات الصناعة والعلم والتعليم والحرب والاكتشافات العلمية والأثرية والعسكرية، بل وتركوها مزروعة بالألغام.
فى الحقيقة، فإن بعض من احتلوا دولنا فترة من الزمان كانوا أكثر من لصوص يسرقون الذهب والماس والمال والمواد الخام الأخرى، فقد كانوا يسرقون العمالة الماهرة فى كل صنعة ويرسلونها إلى عواصمهم لتثرى مدنهم فنيًا وتتجمل وتتطور وتزدهر مبانيها وشوارعها ومدارسها، بينما تظلم وتفتقر البلاد الأم التى سلبوها فنييها وشيوخ صناعاتها قبل أموالها ومواردها الأخرى.
اليوم – ودول تحتفل بجمال عواصمها وقدرة صناعها على إنتاج الجميل من المنتجات اليديوية والاختراعات، ويتباهون بعواصمهم الجميلة وشوارعها المتسعة والمتسمة بالنشاط والأناقة والحياة المنظمة، ويفتخرون بكثرة تردد السائحين على تلك العواصم، ينسون أن عواصمهم لم تكن لتصبح على ما هى عليه اليوم من الجمال لولا ما مارسته تلك العواصم قديمًا من السرقة فى البلاد التى احتلتها بجيوشها لسنوات كثيرة أو قليلة، ولا عزاء للدول المنهوبة ولا ذكر لها، بينما هى تسبح فى درجات متباينة من التأخر.
رغم إعجابى شخصيًا وإعجاب الكثيرين طبعًا بما وصلت إليه الحضارة الغربية من تقدم وازدهار، إلا أننى لا أجد محلًا لاستمرار الحضارة الغربية فى إنكار دورها الاستعمارى البغيض وما كان له من آثار بعضها انقضى وبعضها ما زال مستمرًا فى المجتمعات التى احتلت.
ووجه الغرابة، أن الغرب يدرك قيمة الأخلاق الإنسانية ويدرك أنه لا قيمة لتقدم بلا أخلاق، إذ لا قيمة لعمل من سرق فكر غيره، ولا قيمة لمن غش الناس ولا قيمة لمن كذب ولا قيمة لمن لا أمانة له ولا وطن لمن يبيع كل شيء بمقابل، فكيف إذا يرضى الغرب لنفسه أن يلزم المناورة والمكابرة والإنكاروالتهرب من المسؤولية فى مواجهة الواقع وفى اختبار الحياة والإنسانية؟
هناك قضايا مماثلة دوليًا وتتعرض للإنكار وللتجاهل تهربًا من المسؤولية ومنها: مطالبة المجتمع الأسود فى دولة غربية كبيرة للمجتمع الأبيض بالاعتراف بتسبب سنوات الاستعباد التى عاشها المواطن الأسود فى أسر المواطن الأبيض فى إصابته بضرر بالغ ومستمر، وأن سنوات الاستعباد قد حرمت المواطن الأسود من فرصة تراكم الثروات لدى الأجيال المتعاقبة من نسل المواطن الأسود – ضمن ما حرمته منه من فرص وأشياء أخرى– وبالتالى تسببت تلك السنوات من الاستعباد فى كون المجتمع الأسود اليوم مجتمعًا ضعيفًا فقيرًا وأقل تعليمًا وأكثر ميلًا إلى الجريمة وأقل فرصة فى الحياة وأكشر معايشة وتعرضًا للأمراض النفسية والبدنية والاجتماعية وأقل حظًا فى المجتمع.
ومن تلك القضايا المماثلة الاعتراف بالمسؤولية عن حقول الألغام التى زرعتها الدول المتحاربة فى أراضى دول أخرى وتركتها ورحلت.
ومن تلك القضايا قضايا تغير المناخ أيضًا، فالجميع يتنصل من المسؤولية عن الأضرار التى لحقت بمجتمعات كثيرة نتيجة لتغير المناخ الناتج عن النشاط الصناعى بشكل أساسى.
إذا كان لبعض المجتمعات المتقدمة أن تفتخر بحالها من السمو والترقى اليوم، فلا أقل من أن تنسب بعضًا من الفضل إلى أيدى الآخرين الذين أسهموا فى هذا السمو، ولو كان إسهامًا جبريًا قسريًا.. حفظ الله مصر ورئيسها ووفقه إلى الخير كله.