شوفي يا مصر
حتى المسحراتي !؟
رغم أن رمضان شهر عبادة قد تشق على البعض ، الا أنه شهر بشوش خفيف على الأطفال ومحبوب عندهم مثلما هو محبوب عند الكبار وأكثر . ربما لصفاء قلوب الأطفال وصفاء أذهانهم ونقاء سريرتهم . فهو عبادة زائرة ، تطالعنا مرة واحدة في السنة . وتحل مع هذه العبادة معان جميلة ومتجددة من معان الايمان والصبر والتطلع الى رضا الله عز وجل . وتحل مع رمضان رغبة فائضة في قراءة القرآن الكريم والتفقه في معانيه ودراستها . وتحل مع رمضان سعادة بوصل القريب والجار . كما أن رمضان مقدمة لعيد قادم سعيد . صغير حقا ، ولكنه سعيد بفضل الله .
كنا – ونحن أطفال - نعد زينة خاصة من أوراق لامعة نسلكها في خيطان كثيرة ونروح ونجيئ سعداء ونحن نعلق بعضا منها هنا وبعضا منها هناك . فاذا اكتملت زينة رمضان وعلت الجدران والبالكونات والشبابيك ، رحنا نلعب الكرة والاستغماية حتى تخور أجسامنا من التعب وتأوينا أحضان أمهاتنا بالعناية والمحبة . وقد اعتدنا منذ الصغر على انتظار المسحراتي قبيل فجر اليوم الجديد من أيام شهر الصيام الكريم . كان استقباله بهيجا مصحوبا بمشاعر حلوة ومتمما لمراسم استقبال مناسبة سعيدة جليلة . كان يعني استقابله أننا نكبر الى مسئوليات الكبار ونشاطرهم بعضا منها بحبور .
امتاز مسحراتي زمان بصوت رخيم وضربات متناغمة على طبلة صغيرة ، ودعوة لينة الى الاستيقاظ لوقت السحور يرددها مرات . كان أداؤه أداء فنيا محببا ، رغم عدم اشتغال صاحبه بالفن . ولم يكن أحد لينفر منه أو من صوته أو من مهمته . كان المسحراتي جزء من جمال رمضان ورونقه .
من ينسى أغنية سيد مكاوي : اصحى يا نايم وحيد الدايم .. ادي ولادك ودادك .. اصحى يا نايم وحد الرزاق !؟ الرجل تدب مطرح ما تحب . وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال .
كانت أياما جميلة . أما الآن ، فلا فن ولا قبول . فمسحراتي اليوم هو صوت مزعج لرجل يقرع علبة بقطعة من خشب ، ولا يعرف سبيلا الى جملة محببة يرفع بها صوته الجهوري . وانما هو يحدث جلبة عالية ويردد بعض الأسماء في نداء عفوي قد يستجيب له الناس ، وقد ينفر منه كثيرون . فلا الناس بحاجة الآن وبعد انتشار الموبيلات والانترنت ، ناهيك عن أجهزة الراديو والتليفزيون من كل حجم ، الى هذا التنبيه الذي بات في مصاف " الازعاج " ، ولا احتفظ صاحب المهنة الموسمية برونق المهن الكريمة المقصد حتى تصمد في مكانها أمام تطورات الحياة وتغيرات المجتمع الذي نعيش .
رأينا جميعا ، ونرى في زياراتنا لدول أخرى ، كيف يتم الحفاظ على كل قديم قيم ، وكيف يتم الحفاظ على كل ما يمثل روح المجتمع وقيمه .
أتصور أنه من الأهمية بمكان ، أن تكون هناك جهة مصرية معنية بحفظ هذا التراث المصري الجميل ومراعاة مثل هذه المهن وأصولها ومتابعة القائمين عليها بما يلزم من كل جانب مادي ومعنوي ، حتى لا تندثر ويندثر معها للأسف فن جميل ومظهر محبوب من مظاهر شهر رمضان الكريم ، ومعلم من معالم مصر الاسلامية القديمة . فاذا لم نفعل ذلك سريعا والآن ، فقد نخسر كثيرا خلال السنين القادمة . حفظ ألله مصر ورئيسها ووفقه وقادتنا الى ما فيه الخير .
ماهر المهدي