مفهوم الجريمة الاقتصادية
اصطلاح الجريمة وفقًا لتعريفها في القانون فيستعمل للتعبير عن سلوك مخالف للقانون الجزائي مستحقًا للعقاب لوقوع المخالفة على حق – سواء لفرد أو للمجتمع – يحميه القانون ، لذلك عرّف فقهاء وشراح القانون الجنائي الجريمة بأنها فعل أو امتناع عن فعل يؤدي إلى الضرر بالغير ويعاقب عليه القانون، ولكن بشأن الجريمة الاقتصادية ظهرت تعريفات عديدة للجريمة الاقتصادية، ولكن هناك رأي فقهي يرى أن الجريمة هي الجريمة ولا داعي للمسميات المختلفة، إذ أن من الجرائم العادية ما يكون له آثار اقتصادية مثـل السـرقة والرشـــوة والاختــــلاس والتزويــــر والنصب والاحتيال والغش والتهرب الضريبي ، إشهار الإفلاس بالتدليس وكل المماطلات الخاصة بسداد المديونيات وغيرها العديد من الصور المختلفة للجرائم المالية والتي تؤثر على اقتصاد الدول ونحوها . من معرفة ما تعنيه كلمة الاقتصاد، يتضح مفهوم الجريمة الاقتصادية. فمفهوم الاقتصاد، كما عرفه سميث، هو ((علم الثروة)) ، وعرفه مارشال بأنه " نشاط الفرد والمجتمع للحصول على الموارد اللازمة لتحقيق الرفاهية العامة".
وقد عرفه روبنر " ما يهتم بسلوك الإنسان كحلقة اتصال بين الأهداف والحاجات المتعددة والوسائل النادرة ذات الاستعمالات المختلفة " أما "ريمون بار" فعرفه بأنه "ما يبين السبل التي يتبعها الأفراد والمجتمعات لمواجهة الحاجات المتعددة باستعمال وسائل محدودة".
وفي ضوء هذا الفهم ينظم القانون العلاقات بين المنتج والمستهلك، اي تنظيم التبادل ،كما يؤسس القواعد الدستورية للتوزيع، ومن المذهبية الاجتماعية تظهر محددات الإنتاج وأنماطه، والقيود على الاستهلاك، بما يشكل هرما نظريا يرسم تنظيمًا لمجمل النشاط الاقتصادي، ويلاحظ مدى دور الربحية، والتناسب بين المداخيل وآثار التفاوت والأسعار، وأسلوب التصرف بالفائض. فما يحصل من سلوك مخالف لما نظمه من هذا القانون، الأمر الذي جعلت عليه عقوبات محددة، هو ما يطلق عليه اسم الجريمة الاقتصادية . لذا فأقصر تعريف لمفهوم الجريمة الاقتصادية هو " السلوك المخالف للقوانين المنظمة للتصرف الاقتصادي، والذي نص عليه القانون بعقوبة محددة ". وحيث أن الشريعة الإسلامية أسست المذهب الاقتصادي بأطروحة تمتلك تصورًا للمشكلة الاقتصادية، وإجراءات لحلها، وقوانين لتنظيم نشاط الأفراد وحقوقهم وواجباتهم، فان مخالفات الفرد لما أسسه الشارع تعد أفعالاً إجرامية بمقياس الشريعة، على مستوى القضاء الشرعي حدًا أو تعزيرًا، أو على مستوى الديانة التي تترتب عليها عقوبات أخرى . لذلك يمكننا القول: إن ماهية الجريمة الاقتصادية هي التصرفات المحظورة لتنظيم الإسلام للإنتاج والتوزيع والاستهلاك وإدارة اقتصاديات المجتمع من خلال التنظيم والتنفيذ والتخطيط والرقابة. وهناك من الفقهاء من عرّف الجريمة الاقتصادية بأنها كل فعل غير مشروع مضر بالاقتصاد القومي إذا نُصّ على تجريمه في قانون العقوبات ، أو في القوانين الخاصة بخطط التنمية الاقتصادية الصادرة من السلطة المختصة . وليس من الصعب في بعض البلدان أن نحدد الجرائم الاقتصادية فالمشرعون قد حددوها بدرجة كبيرة من الوضوح ، ففي فرنسا صدر في 30 يونيـه سنة 1945 قانون بعنوان " ضبط الجرائم الماسة بالتشريع الاقتصادي واتخاذ الإجراءات بشأنها ، وفي هولندا صدر بتاريخ 22 يونيه 1950 تشريع نموذجي لقانون العقوبات الاقتصادي ، وفي ألمانيا (الغربية وقتئذ ) نص على الجرائم الاقتصادية في قانون العقوبات الاقتصادية الصادر في 9 يوليو 1954وقد تم تعديل هذا القانون عدة مرات ، وهكذا صدرت عدة قوانين في الاتحاد السوفيتي القديم وبلغاريا وغيرها من دول الكتل الشرقية في منتصف القرن الماضي، وفي هولندا في 22 يوليو 1950كان قد صدر قانون خاص بالجرائم الاقتصادية ، وانتشرت قوانين مشابهة في كل من قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي المنطقة العربية لم تعرف قوانين خاصة بالجرائم الاقتصادية إلا كل من مصر والعراق وسوريا وليبيا والأردن ، بل في بعضها قوانين باسم قانون الجرائم الاقتصادية تحديدًا ،ويوجد من شراح القانون والفقهاء الذين سموا الجريمة الاقتصادية باسم آخر وهو " الجرائم المالية " ولكنهم اتفقوا على نفس التعريف مثل الدكتور هيثم عبد الرحمن البقلي في كتابه " الأحكام الخاصة بالدعوى الجنائية الناشئة عن الجرائم المالية – دار النهضة العربية بالقاهرة ، 2005". بينما هناك دول ذات الاتجاه الفردي تعرف الجرائم الاقتصادية بأنها ترمي إلى حماية العلاقات الاقتصادية القائمة على المنافسة الحرة . ومثال ذلك القانون الذي أصدرته حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1890 والمعروف باسم قانون "شيرمان" Sherman Actوهو يعتبر – من حيث المبدأ والتعديلات التي أدخلت عليه – كل عقد أو اتفاق يرمي إلى خلق تكتل اقتصاديTrust" " أو احتكار "Monopoly" أو إلى تقييد التجارة بين الولايات أو مع الدول الأخرى ، غير مشروع. وقد اتفق الفقه الجنائي تحديدًا على أن الجرائم الاقتصادية ذات مخاطر عالية أكثر من أي نوع آخر من الجرائم – لماذا ؟ لأن الجرائم الاقتصادية ذات تأثير ممتد لأجيال متعددة وذات تأثير واسع على أكبر كم ممكن من الناس ، وهي ذات تأثيرين كبيرين اقتصادي واجتماعي – كيف ؟لتأثيرها الاقتصادي على الدولة واقتصادها وماليتها والتأثير الاجتماعي بتهديدها حياة وأموال الناس من جهة أخرى . ويقصد بالإجرام الاقتصادي: الأفعال الضارة الاقتصادية والتي يتولى القانون تحديدها لحماية مصالح البلاد الاقتصادية .. فثمة نصوص تهتم بحماية النظام الاقتصادي في مجال الأنشطة المختلفة ومن أهمها حماية الأموال العامة والخاصة من العبث أو امتلاكها خلسة أو حيلة أو عنوة ، وتحقيق أرباح غير مشروعة ، أو بتوجيه سياسة الدولة لتحقيق مصالح ذاتية ومن بين تلك الجرائم الضارة بالمصلحة العامة استغلال الوظيفة العامة لتحقيق أغراض شخصية عن طريق الرشوة والتربح واستغلال النفوذ لتحقيق مصالح ومنافع وميزات شخصية. ولما كان القانون الجنائي يهتم بحماية المصالح الأساسية للمجتمع الإنساني فإن من أهم هذه المصالح حماية المال من جرائم الاعتداء عليه سواء كان المال عامًا أو خاصًا. وباستقراء نصوص التشريعات الاقتصادية تتضح سياسة المشرع تجاه حماية المال العام من العبث بوصفه جرمًا جسيمًا، وتطبيقًا لذلك فقد نص المشرع على جرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه والغدر والاستيلاء عليه بأي صورة أخرى ، ومن بينها أيضًا تقاضي عمولات عن صفقات أو غير ذلك من الأفعال، وقد فرضت عقوبات جسيمة لمنع العبث بالمال ، ومن أهم الجرائم الاقتصادية جرائم الفساد واختلفت النظم السياسية في شأن محاسبة المسئولين السياسيين وكبار الشخصيات في حالة انحرافهم بالمسئولية المنوطة بهم وفساد ذممهم .. إذ تجنح بعض النظم إلى الاكتفاء بالتطهير أو الجزاء الإداري والإقالة في حالة شئون الاتهام بالانحراف والفساد .. بينما تأخذ دول أخرى بنظام الجمع بين العقوبة الجنائية والجزاء الإداري مهما كان مركز الجاني الوظيفي وذلك إعمالاً لمبدأ " سيادة القانون" الذي يعتبر أصلاً من الأصول التي تقوم عليها الديمقراطية. لذا عرف الفقهاء الجريمة الاقتصادية بأنها " فعل ضـــار أو امتناع عن فعــل محدد ويكون للفعل أو الامتناع مظهر خارجي يخل بالنظام الاقتصادي والإنمائي للدولة و بأهداف سياستها الاقتصادية ، ويكون ذلك محظورًا قانونًا وله عقاب ويقوم بذلك إنسان أهل لتحمل المسئولية الجنائية " أو باختصار أكثر الجريمة الاقتصادية هي كل فعل أو امتناع من شأنه المساس بسلامة اقتصاد الدولة. ومن هذا التعريف نستطيع أن نخرج منه بعناصر الجريمة الاقتصادية : 1- النشاط الإجرامي : وهو القيام بفعل مادي ضار أو الامتناع عن القيام بالعمل المادي. 2- الضرر : أي يكون لها مظهر خارجي أي ما يدل على إخلالها بالنظام الاقتصادي ونمو الدولة وبأهدافها وسياستها الاقتصادية. 3- أن النشاط الإجرامي ( الفعل المادي أو الامتناع المادي ) محظور قانونًا. 4- أن اقتراف النشاط الإجرامي ( الفعل المادي أو الامتناع المادي ) يؤدي إلى توقيع عقوبة نص عليها التشريع . 5- أن من يقوم بالنشاط الإجرامي ( الفعل المادي أو الامتناع عن العمل المادي ) الضار شخص طبيعي أو اعتباري خال من عيوب الإرادة ، ويكون أهلاً للمسئولية الجنائية. ولقد وضعت الحلقة العربية الأولى للدفاع الاجتماعي التي عقدت في القاهرة عام 1966 تعريفًا للجريمة الاقتصادية جاء فيه : " يعد جريمة اقتصادية كل عمل أو امتناع يقع مخالفًا للتشريع الاقتصادي إذا نص على تجريمه قانون العقوبات العام ، أو القوانين الخاصة بخطط التنمية الاقتصادية والصادرة من السلطة المختصة لمصلحة الشعب ، ولا يجوز أن يكون محل جزاء غير ما نص القانون على حظـــره والمجازاة عنه " وهو تعريف لا يخرج عن تعريف مشابه ورد في إحدى توصيات الحلقة العربية الأفريقية للدفاع الاجتماعي التي عقدت في القاهرة ( فبراير 1960). ولكون الجريمة الاقتصادية تختلف من مجتمع إلى آخر ومن دولة إلى أخرى فقد اهتمت بها المنظمات الدولية المختلفة . وذلك لخطورتها وتأثيرها الشديد على برامج التنمية وتقدم المجتمعات ، ولصعوبة حصر نتائجها أو حتى تحديدها من جهة أخرى . ومع ذلك فليس من السهل تعريف فئة "الجريمة الاقتصادية" ، وما زال وضع مفهوم دقيق لها يمثل تحديًا ففي عام 1981 ، مثلا ، حددت اللجنة الوزارية لمجلس أوروبا 17 جريمة باعتبارها جرائم اقتصادية (القرار رقم 12(81) (R، وهي : 1. جرائم الكارتلات. 2. الممارسات الاحتيالية . 3. استغلال الحالة الاقتصادية من جانب الشركات المتعددة الجنسية. 4. الحصول على المنح من الدول أو المنظمات الدولية عن طريق الاحتيال أو إساءة استعمال تلك المنح. 5. الجرائم الحاسوبية. 6. الشركات الوهمية. 7. تزوير ميزانيات الشركات وجرائم مسك الحسابات. 8. الغش بشأن الحالة الاقتصادية للشركات وحالة رأسمال الشركات. 9.مخالفة الشركة لمعايير الأمن والصحة المتعلقة بالعاملين. 10. الاحتيال الذي يلحق الضرر بالدائنين. 11.الاحتيال على المستهلكين. 12.المنافسة الجائرة بما في ذلك دفع الرشاوى والإعلان المضلل. 13.جرائم الضرائب وتهرب المنشآت التجارية من سداد التكاليف الاجتماعية. 14.الجرائم الجمركية. 15.الجرائم المتعلقة بالنقود ولوائح العملة. 16.جرائم البورصات المالية والمصارف. 17.الجرائم ضد البيئة التمييز بين الجريمة التقليدية والجريمة الاقتصادية المعاصرة بعض شراح القانون ، مثل الدكتور طاهر حبوش - ويؤيده في هذا الاتجاه الدكتور ذياب البداينة - يرى أن الجرائم المستجدة هي صورة من الجرائم المستحدثة، ولكنها مرتبطة بالتطور العام للمجتمع ، وأن الجرائم المستجدة يستخدم في ارتكابها تقنيات حديثة ، أما الجرائم المستحدثة فتشمل الجرائم المستجدة والأنماط الأخرى الناجمة عن التطورات التقنية عامة. وكما ذكرنا من قبل فإن من شراح القانون من يرى أن الجريمة هي الجريمة ولا داعي لأي تصنيف ، ونستطيع أن نجمل التفرقة أو التمييز بين الجريمة التقليدية والجريمة الاقتصادية خاصة المعاصرة أو المستجدة أو المتحدثة منها فيما يلي : أولاً : الجريمة التقليدية جريمة محددة بنص قانوني غالبًا في قانون العقوبات ، بينما الجرائم الاقتصادية و خاصة المعاصرة أو الحديثة منها هي جرائم لم يشملها قانون العقوبات بل قوانين خاصة بكل جريمة والبعض منها لم يصدر بتجريمه أي تشريع أي نعاني من قصور تشريعي نحوها. ثانيًا : تتفق كل من الجرائم التقليدية والجرائم الاقتصادية و خاصة المعاصرة أو الحديثة منها في المضمون كالسرقة و الاستيلاء على مال الغير ، ولكنها تختلف في الشكل بسبب روح العصر والتغيير في البنى الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع . ثالثًا : الجرائم التقليدية تعد جرائم محلية بينما الكثير من الجرائم الاقتصادية و خاصة المعاصرة أو الحديثة منها هي جرائم عابرة للدول والقارات وقد تكون مرتكبة عن بعد عبر أجهزة إلكترونية واتصالات ومعلوماتية بسبب التكنولوجيا الحديثة . رابعًا : الجرائم التقليدية تستهدف الفرد في جسمه أو في ماله أو في سمعته وشرفه ، بينما الجرائم الاقتصادية تستهدف المصالح العامة في جانبها الاقتصادي والمالي. خامسًا : الدافع في الجرائم التقليدية قد يكون الانتقام أو الثأر أو الإضرار الأدبي أو الاجتماعي بالإضافة إلى الكسب المادي ، بينما الدافع في الجرائم الاقتصادية هو الكسب المادي أو الإضرار المالي فقط.