إلهــام شرشر تكتب: الإسلام دين الفطرة «الحزن فى ميزان الإسلام »
انتهينا فى الحلقة السابقة من طرح سؤال يدور حول .. لماذا هذا الحرص البالغ من نهى قوم قارون - قارون ــ عن الفرح ؟؟؟!!!
وقبل أن نجيب عن هذا السؤال .. نحب أن نؤكد على أن بعض الناس يستهينون بما أولاهم الله من نعم كـ «الحفظ فى نفسه وفى ذويه .. والنجاح فى عمله .. والرقى فى مكانته .. والاستقرار فى حياته وغيرها من النعم» التى لا تقبل العد ولا تعرف للإحصاء طريقًا .. فلا يعبأون بهذه النعم ولا يلتفتون لها .. بل قد يزدرونها ويحتقرونها ..
وفى المقابل يضخم من آثار الحرمان .. من حظوظ المال والثروة ويستولى على قلبه الحزن والغم .. ولهؤلاء نقول .. «إن هذه الاستهانة غمط للواقع ومتلفة للدين والدنيا .. وإذا كان هذا حال بعض الناس فإن البعض الآخر ينسب كل ما يقع فى يديه من نعمة أو يحيطه من فضل أو ينزل عليه من حيث لا يحتسب إلى نفسه .. يفرح بالنعمة وينكر المنعم ..
إن هاتين الحالتين من حزن مضيع للدين ومن فرح يحرم الإنسان من اليقين لهما بعيدان كل البعد عن منهج الإسلام الصحيح فى النظر إلى الحزن والفرح ..
ومن هنا ندرك سر قوم قارون عن تحذيره من هذه النوعية من الفرح السلبى المذموم الذى لا يؤدى فيه حق الله عز وجل .. بل ينكر بالكلية ..
ومن هنا ضرب الله المثل من خلال قصة قارون حتى لا تقع البشرية فى ما وقع فيه .. فلقد تكبر قارون وتفاخر بزينته وبكثرة ما أوتى من مال فكانت النتيجة وبالًا عليه ..
وفى القرآن الكريم تنبيه لهذا المعنى فى آيات كثيرة فقال تعالى :(وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّـهِ فَأَذاقَهَا اللَّـهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ ﴿١١٢﴾ (النحل) ..
فإذا كان التحصر على الماضى الفاشل والبكاء المجهد على ما وقع فيه من آلام وهزائم هو فى نظر الإسلام بعض مظاهر الكفر بالله .. والسخط على قدره وهو أمر مذموم شرعًا ودينًا وخلقًا .. ففى المقابل التباهى بالنعم والتعالى على الناس بها وعدم إعطاء حق الله فيها .. هو من الأمور المذمومة شرعًا ..
فلا الموقف الأول يستجلب الحزن ولا الثانى يستدعى الفرح .. وذلك أن المسلم إذا أمسه ضاع بين يديه اليوم .. وإذا كان اليوم سوف يجمع أوراقه ويرحل فلديه الغد .. فهو لا يحزن على الأمس لأنه على يقين بأنه لن يعود ولا يتأسف على اليوم فهو راحل ودائمًا ما يحلم بشمس مشرقة مضيئة فى غد جميل .. فعلام يحزن إذًا ؟؟؟!!!!
لذلك يقول الشاعر: لرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعًا وعند الله منها المخرج ..
لقد حل الإسلام هذا اللغز الذى صعب على كثير من الناس استيعابه وإدراكه ووعيه وفهمه على هذا النحو .. فلم يجعل الدهر عونًا على الإنسان .. كما أنه لم يجعل للنوائب على نفسه سندًا ومددا ..
« عسى الكرب الذى أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتى أهله النائى القريب»
وبهذا نفهم لماذا نهى الإسلام المؤمن عن الحزن ؟؟؟!!! .. لأنه سبحانه خلق لنا عقلًا نفكر به .. ونقلب فيه بين البدائل .. ونختار به ما يتفق ومصالحنا ويتوافق مع منافعنا ..
وبهذا جاءت دعوة الإسلام بضرورة مقاومة الحزن وعدم الاستسلام للضعف والقهر فأنت قادر أيها الإنسان على تجاوزه ما دام لك إرادة على تحدى الصعاب وتجاوز الأزمات وتحقيق الآمال وبلوغ الأحلام وإلا ..
فهل يجب علينا أن نقتل أنفسنا حسرة على شيء لا نقوى عليه ولا نستطيع تغييره ؟؟؟!!! .. ولا غد ليس بالإمكان صنيعه ..
إن شرف المحاولة تساعدك على طى الأحزان وإذابة الهموم والغموم فمتى نستطيع أن تتولد لدينا حالةمن الرضا والاكتفاء الذاتى وحسن استغلال ما فى اليد من مهارات ومواهب وقدرات ونبذ الاتكال على الأوهام .. فإذا استطعنا ذلك فقد قفزنا فوق الأحزان وتجاوزناها ما دمنا متمسكين بالدين واثقين من رب العالمين ..
« الدين سلوى النفس فى آلامها ... وطبيبها من أدمع وجراح »
فالاستعانة بالله عز وجل والتضرع إليه والاستغفار يذهب الهم والغم قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُال لَا يَحْتَسِبُ) ..
وإذا كان هذا موقف الإسلام من الحَزن الذى لا يرضى به ومن الفرح الذى يرضاه لأن فيه تعبير عن شكر النعمة التى ما أكثرها نزولًا بين يدى العبد ..
وبهذا يتضح موقف الإسلام من حرصه على ضبط العواطف كحرصه على ضبط السلوك والأعمال .. فالإسلام ينهى عن الإسراف حتى فى المشاعر .. فلا يرضى أن يمتد الحزن بالمؤمن الذى يخرجه من دينه وعقيدته كما لا يرضى بالاستغراق فى الفرح الذى ينسيه نعم الله عليه ..
ومن هنا جاء القرآن حاملًا هذا الموقف المتوازن فى قوله تعالى (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد ٢٣ ) ..
ويبقى السؤال .. ما موقف الإسلام من الضحك ؟؟؟!!!.. ولماذا رفض الإسلام القهقهة ؟؟؟!!!..
نقول:.. لو تأملنا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أدركنا أن هذه الكلمة ذكرت فيهما كثيرًا .. ولكن بمعانى مختلفة .. وعلى حسب معناها يتحدد موقف الإسلام منها شرعًا ..
والعجيب فى شأن الضحك أنه لا يخص فى ثقافتنا الإسلامية البشر فحسب .. وإنما قد يضحك السحاب هكذا جاء فى الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله السحاب فيضحك أحسن الضحك جعل نجلاءه عن البرق ضحكًا من باب الاستعارة والمجاز .. كما يفتر الضاحك عن الثغر .. كما ورد فى اللغة العربية أن الأرض تضحك .. وضحكها يكون بخروج النبات والزهر منها ..
والعجيب فى شأن الضحك أنه من الظواهر التى تشترك فيها جميع اللغات .. وذلك لأنه يعد لا محالة شكلًا من أشكال التعبير الصريح عن المرح وعن مشاعر أخرى أحيانًا .. وهو بكل تأكيد يمثل رد فعل طبيعى للإنسان السليم .. كما يمكن أن يكون وسيلة دفاع ضد مواقف الخوف العفوية ..
ولا يختلف أحد على أن الضحك يعكس مدى التعاطف والتفاهم المتبادل بين البشر ووسيلة لا يمكن الاستهانة بها من وسائل التواصل الإنسانى .. وبالضحك تتحرك الكثير من عضلات الوجه التى تبلغ ١٧ عضلة .. بل إن ما يقرب من ثمانين عضلةً فى الجسم بأكمله تتحرك مع الضحك .. وتزداد معها سرعة التنفس ..
ولقد ورد الضحك فى القرآن بمعان ودلالات مختلفة .. فقد يوحى بمعنى السخرية والاستهزاء قال تعالى : (فَليَضحَكوا قَليلًا وَليَبكوا كَثيرًا جَزاءً بِما كانوا يَكسِبونَ) (التوبة ٨٢) ..
ونلاحظ فى الآية أنها تكشف الدافع وراء ضحك الكفار وهو السخرية والاستهزاء المنطلق من الجهل والاستعلاء والاستكبار والعناد .. وهذا النوع من الضحك عواقبه وخيمه .. كما هددهم بذلك القرآن الكريم ..
وقد يكون الضحك شعورا نابعا من الفوز والفلاح .. قال تعالى :( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) .. حقًا إن المؤمن ليجد ما وعده الله حقًا وصدقًا سواء كان فى الدنيا أم الآخرة .. فيكون سببًا يدعوه إلى الضحك ..
وقد يكون الضحك إحساس يملى على المرء نتيجة النعم التى يخصه الله تعالى بها ويميزه دون سواه .. على نحو ضحك سيدنا سليمان عليه السلام قال تعالى :(فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل ١٧) ..
كما ورد الضحك من باب التعجب فى القرآن الكريم .. على نحو امرأة إبراهيم عليه السلام ..
كما ورد الضحك بمعنى الاستبشار على نحو ضحك المؤمنين ذوى الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة استبشارًا ورضًا بنعيم الله وجزيل عطائه قال تعالى :(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ﴿٣٨﴾ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴿٣٩﴾)(عبس ) ..
كما ورد الضحك بمعانٍ أخرى فى آيات القرآن الكريم .. وإذا تأملنا حياة النبى صلى الله عليه وسلم ندرك تمامًا أنه صلوات الله عليه عُرف بالبِشر والابتسام حتى فى لحظات الغضب .. لذلك روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه «كان يضحك ويبتسم حتى تبدو نواجذه» كما كان صلوات الله عليه يستحث أصحابه وأمته من بعده على ضرورة بسط الوجه الذى اعتبره من أخلاقيات المسلم التى يعرف بها .. يقول صلوات الله عليه: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق» .. وفى الحديث دليل على أن حاجة الناس الأدبية والمعنوية لا تقل عن حاجتهم المادية بل بتزيد بكثير ..
لذلك لم يكن غريبًا أن يبتسم النبى مع أصحابه ويلاطفهم .. ويستجيب مع طرائفهم .. يقول صلوات الله عليه:« روحوا عن القلوب ساعة فساعة، فإن القلوب إذا كلَّت عميت» .. لدرجة أن النبى صلى الله عليه وسلم ما كان يلقى أحد أصحابه إلا تبسم فى وجهه .. فعن جرير ابن عبد الله رضى الله عنه قال: «ما حجبنى النبى صلى الله عليه وسلم ولا رآنى إلا تبسم فى وجهى»..
ولقد وصفت السيدة عائشة القريبة منه صلى الله عليه وسلم والمحببة عنده النبى صلى الله عليه وسلم بالكثير من الصفات .. ومن ذلك «أنه كان بسَّمًا« بمعنى أنه كان يكثر من التبسم ..
ولو أردنا أن نتتبع توجيهات النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الباب لأعيتنا الأدلة التى تؤكد على مشروعية التبسم .. ومن تلك التوجيهات التى كان النبى يحرص على توجيه الصحابة إليها ما كان من إسداء المعروف للغير مهما كان فى نظر صاحبه يعد أمرًا بسيطًا .. فالمعروف بنوعيه المادى والأدبى يقويان العلاقات .. ويزيلان الهموم والمنغصات .. ويفتحان الباب للتعاون والتكاتف بين أبناء الأمة .. يقول صلى الله عليه وسلم :«لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» ..
وذلك أن تبسمك فى وجه أخيك يعد من القربات التى يتقرب بها العبد إلى الله .. وكاد التبسم يكون شعيرة من شعائر الإسلام .. قال صلى الله عليه وسلم :«تبسمك فى وجه أخيك صدقة» ..
لعل عناية الإسلام بترقيق القلوب والتأليف بين الناس يكشف بكل تأكيد على حرص الإسلام البالغ على احتفاظ الإنسان بإنسانيته والسمو بها نحو ما يليق بكرامته .. ويتفق مع مكانته .. ويتوافق مع شريعته ..
حقًا إن الإسلام لدين الفطرة ..
وللحديث بقية ..