مسألة نضج
كان مسؤولا ناجحا فى قطاع ما فى بلد ما. وأراد المسؤول الكيس أن يتفقد حالة العمل على أحد القطارات، ليطمئن إلى مدى الارتقاء، بصيانة القطارات وتجديدها، وتدريب القائمين على تشغيلها، ومستوى الضيافة والنظافة بها. فقد كان - إلى جوار مهارته فى عمله - متواضعا مقداما على العمل بيده وعلى الدخول إلى مواطن الأزمات بنفسه، ولا يستنكف أن يكون مع العاملين. وحذره بعض من حوله من صعوبة التجربة ودعاه إلى إعادة النظر فيها إلى وقت لاحق، ولكن الرجل أبى إلا التجربة. فتم الترتيب مع الجهات المختصة - فى ذلك الوقت - ليستقل المسؤول القطار للتجربة والاضطلاع والتقدير وإظهار الهمة. ومضى اليوم مشغولا مشحونا بالارتباطات العديدة والحركة الكثيفة والاجتماعات التى امتدت - لدواعى العمل - إلى فترات زمنية لم تكن فى الحسبان. ولم يستطع أحد أن ينبه المسؤول إلى موعد رحلة القطار، مخافة ردة فعله وهو منهمك فى اجتماعاته الساخنة، حتى حل موعد قيام القطار والمسؤول ما زال فى مكتبه بعد. فلما سكت عن المسؤول الحماس الحار أدرك أن موعد قيام القطار قد أوشك وأن اللحاق بذاك القطار بات صعبا بعيد المنال. سكت المسؤول برهة وهو يتفحص وجوه مساعديه. فقال أحد المساعدين: دعونا نجرى اتصالا، لعلهم يؤخرون قيام القطار ريثما تتمكن سيادتك من الوصول إلى محطة القطار. وتابع المساعد: بسيطة يا فندم ولا ضرر. سكت المسؤول ولم يعلق، فتحرك مساعده وعاد بعد قليل بالخبر المفيد: لقد تم تأخير موعد قيام القطار لساعتين لانتظار سيادتك.
فى بلد آخر، كان على المسؤول الكبير ومرافقيه السفر إلى مدينة أخرى خارج العاصمة، لحضور مناسبة هامة على المستويين الرسمى والحزبى. وأعد المسؤول نفسه وكذلك استعد مرافقوه كالعادة. ومضى اليوم معبأ بالالتزامات الفياضة التى تصب فى مكتب المسؤول تباعا والرجل يعالجها جميعا الواحدة تلو الأخرى، بينما مرافقوه ينبهونه إلى قرب موعد القطار والمسؤول يلمح التنبيه المعروض عليه بطرف عينه ويستمر فى مداخلاته وعمله بحماس. فلما هدأ الجو، انتبه المسؤول الكبير إلى ضيق الوقت قبل قيام القطار، ونظر إلى مساعديه فلم ينبسوا ببنت شفة، أى أحطناك علما ونبهناك إلى المسألة فنسيتها، وكذلك الآن تنسى.
سكت المسؤول لبرهة، ثم قفز من موضعه وراء مكتبه صائحا: دعونا نعدوا إلى محطة القطار، لعلنا ندركه. نعم دعونا نعدوا. شىء من الرياضة لا يضر، والالتزام التزام، أليس كذلك؟ نظر مساعدوا المسؤول إلى بعضهم البعض فى دهشة، ثم انطلق الجميع خلف المسؤول الكبير عدوا ليلحقوا بقطارهم.