نعم للورد وللجرائد ولا للجنسية
اكتظت الطائرة الألمانية بركابها، وراح المسافرون يتلمسون أماكنهم - وفق الأرقام المحددة لكل منهم على تذكرة سفره - ويسكنون أمتعتهم فى الكبائن العلوية، حتى شغلت المقاعد وامتلأت الكبائن وأغلقت على مكنوناتها وعم السكون الطائرة المتأهبة.
نظرت إلى يسارى لأتفقد من إلى جوارى فى هذه الرحلة، فألفيت شابًا يبدو من ملامحه أنه مصرى طيب، فألقيت عليه التحية سائلًا إياه إذا كان مصريًا، فأكد لى حدسى، وأضاف جارى فى رحلة الطائرة الألمانية إلى القاهرة: "أهلًا وسهلا بحضرتك"، فسألته: وماذا تعمل هنا فى ميونيخ يا ترى؟ قال ببساطة جميلة: لا أعمل هنا يا فندم، ولكنى أعمل فى النمسا، كنت أبيع الورد ثم صرت أوزع الجرائد ولا شىء غير ذلك منذ خمسة عشر عامًا، نظرت إلى مدحثى نظرة تساءل فأكمل قصته من عند نفسه، قائلًا: ليس بيع الجرائد عملًا عظيمًا ولا بيع الورد أيضًا، ولكنه كان أفضل من لا شىء حين تخرجت فى كلية التجارة فى أحد أقاليم مصر منذ حوالى العشرين عامًا، كان لى حينها أخوة وأخوات، وقد توفى عنا أبونا – رحمه الله ورحم والديك وأموات المسلمين أجمعين – والحياة صعبة ومسئولية وسعى كما تعلم، فلما احترت وحالت الأحوال بينى وبين عمل جيد فى مصر، اغتنمت الفرصة حين واتتنى للسفر إلى بلد أوروبى آملًا فى أن أنجح وأن أستطيع القيام بواجباتى حيال أخوتى، وفى النمسا وجدت مصريين كثيرين مثلى، ولم أجد عملًا فخمًا ولا عملًا مهندمًا وسيمًا، ووجدتنى أبيع الورد، وصرت بائعًا جائلًا للورد يشاطر عشرة آخرين مسكنًا من ثلاث غرف ليستطيع كل منا دفع مبلغ زهيد كجزء من الإيجار لمطرح يأوينا من ويلات الشارع وبرد الشتاء وغارات الظروف فى بلد غريب.
أقلعت الطائرة من ميونيخ بينما أنا أستمع باحترام إلى قصة إنسان مصرى كريم، لم يقطع الحديث سوى صوت إحدى المضيفات يعلن عن البضائع المعفاة من الضرائب، ثم استرسل محدثى: حاولت مرات أن أعثر على عمل أفضل بالمؤهل الدراسى الذى أحمله منذ سنين، ولكن لم أستطع سوى الانتقال إلى بيع الجرائد، نعم بيع الجرائد، لا بأس ما دمت أستطيع أن أرسل إلى أهلى وقريتى مالًا يدبرون به حالهم وحالى هناك، وقضيت سنوات طويلة فى عملٍ وكدٍ، لم أقترف إثمًا ولم أخالط طريقًا أعوجًا، رغم ما مر بى من ظروف وما عرض على من قصص وأحاج، سنوات قضيتها كالناسك فى المحراب والله أعلم، وربما فاتنى كثير أو قليل، ولكنى نجوت بنفسى وقلبى وعقلى من كثير أيضًا، وصارت لى سمعة طيبة بعد كل هاتيك السنين، حتى لقد عرضت على السلطات الحصول على الجنسية مرارًا - شأنى فى ذلك شأن كل مقيم مستقيم – ولكنى رفضت لسبببين: أولًا لأننى مصرى ولست نمساويًا رغم بقائى فى النمسا خمس عشرة سنة متصلة، وثانيًا لأنى رأيت ابنًا لمصرى يرد صفعة أبيه له على وجهه بصفعة مماثلة على وجه أبيه حين أراد الأب أن يؤدب ابنه الذى عاد إلى البيت وبرفقته امرأة، ولا أتصور أن يرد لى ابنى صفعة على وجهى، فلا بأس بالورد، ولا مانع من بيع الجرائد أبدًا، ولكنى رجل مصرى حر، قطع الحديث صوت كابتن الطائرة وهو يعلن الاقتراب من مطار القاهرة الدولى ويرجو ربط الأحزمة، ابتسم جارى الشهم وقال: لقد عدت لبلدى حرًا بعد كل تلك السنين، لم يأسرنى شىء سوى حبى لأهلى وبلدى ولم أخسر شيئًا، حفظ ألله مصر ورئيسها ووفقه وقادتها إلى كل خير.