الندم
كان اسمه "وسيم" وكان شابا وسيما فى خلقه وفى اجتهاده الذى لا يمل ولا يتراجع كما عرف عنه فى قريته الصغيرة. وكان حلمه الالتحاق بوظيفة تليق بنباهته وجهده واستعداده للعمل المتصل والتعلم والارتقاء فى مدارج المجدين النابهين. وبعد بحث وكد واجتهاد وفق إلى وظيفة بإحدى الجهات، وأصبح لوسيم مكتب وراتب ودرجة وظيفية. ولكن وسيم لم يستطع شغفه بالدراسة ولا بالعمل الكثيف المستمر، فقرر أن يخوض تجربة الدراسات العليا فى مجال عمله، ليستثمر طاقته ووقته وينفع نفسه لاحقا.
صبر وسيم على الدراسة الشاقة الكثيفة الجهد لسنوات طويلة، لما زادته به من علم وجعلته يشعر بالامتلاء والأهمية فى كل مرة يقرأ فيها صفحة أو يتعلم شيئا جديدا من أصول عمله الهام. وكان الجميع فى عمل وسيم ينظرون إليه بإعجاب، لقدرته على تحمل كل تلك الضغوط الناتجة عن العمل وعن الدراسة العليا مجتمعين ومثابرته التى تهزم غلى التحصيل والتعلم. وصار زملاؤه يستفتونه فى أعمالهم فيفتيهم وتعلو مرتبته لديهم، حتى اشتهر وسيم بعلمه ونباهته فى محيط عمله. وبمجرد أن أتم دراسته العليا وحصل على درجة الدكتوراه رحبت جهة عمله بدرجته العلمية الهامة فى مجال العمل واعتبرته إضافة يجب حسن استخدامها. فانتقل وسيم من وسط زملائه إلى مستوى إدارى أعلى وتضاعف راتبه مرات عدة، وتضاعف دخله المادى وكان محط إعجاب وغبطة الجميع الذين توقعوا له الكثير من النجاح المهنى والترقى فى مدارج المهنة.
كاد زملاء وسيم ينسونه تماما ويصبح فى مصاف الأحلام والرموز البعيدة التى يشار إليها من بعيد، فهم يتحصلون على راتب بسيط ويدورون فى دائرة مغلقة آخرها بسيط كأولها، ولا يجرؤون حتى على الحلم باللحاق بزميلهم النابه فى سماوات التفوق والامتيازات المرئية وغير المرئية. وفوجىء زملاء وسيم صباح يوم بزميلهم يعود إليهم وإلى كرسيه المكسور المتكئ على المكتب الصاج فى ركن غرفتهم التى لا تدخلها الشمس، منكس الرايات مهزوم الأسارير كأنه شخص تائه لا يدرى أين هو ولا يدرى هدفه ولا يسمع ولا ينطق ولا يرى. نقل وسيم من وظيفته العليا إلى وظيفته الدنيا بمنتهى البساطة. وجم الجميع ولم يستطيعوا حتى سؤاله عما ألم به ورماه من علياء الزهو إلى كهوف الوظيفة. ولم ينطق وسيم بكلمة أبدا، كأن فاه سكر بالنار والحديد. وبعد كثير من الصمت والحذر، تسربت الأخبار من كل مكان.
لقد ظن وسيم أنه بطل وأنه حامى الحمى وأنه يستطيع أن يهزم الغول بقبضة يده القروية وأن يضع له لجاما، ولكن الغول حمله كالطفل الرضيع وألقاه ببساطة من شرفة النقود والامتيازات والممتازين العالية إلى حضيض الشرفاء الواهمين الفارين من أنفسهم الخائفين من الحلال ومن الحرام. قالوا إنه من أولئك الملاعين وألقوه فى غيابات الشك، فقتل شخص المسكين ولم يبق له سوى الندم.