الباب الأخير
كانت بارعة فى وقفتها وفى مشيتها وفى ثقتها بنفسها كمتحدث يخاطب الناس ويخاطب الجموع فى محاضرات هادفة وقيمة تحفز الكثيرين على النهوض من بعض عثراتهم الشخصية، أو على التغلب على مآزق حياتية، أو على التعرف على أنفسهم فى مرحلة ما من حياتهم، أو على الإقبال على الحياة، أو على استكشاف صور جديدة للتفكير والاختيار والتقرير. وكانت تبرق ابتسامتها التى تشع ثقة على امتداد ملامحها الأنثوية الجميلة المزينة بقامتها الطويلة وجسدها الذى نحتته الرياضة المتصلة فأحسنت نحته كما أحسن التعليم المستمر والتثقيف الواعى الرصين نحت عقله وصياغة منطقها وكلماتها وعباراتها وأمثلتها. وكان سليل عائلة من التجار الأثرياء الذين عملوا وشقوا ما عاشوا حتى تركوا له نشاطا تجاريا جيدا فى سوق جيدة مزدهرة يحسدها الجميع من المشتغلين بالتجارة ومن غيرهم عليها. تلمع عيناه لمعة الأموال والذهب والفضة، ويختال فى مشيته عجبا بنفسه وبشبابه وبما يحوز من مال راح يطرق أبوابا جديدة لم يطرقها من قبل، ربما ليثبت لنفسه قدرته على مواجهة الجديد الغريب وعلى فتح عقله وقلبه لتجارب لم يحدثه عنها أحد. وعندما خطا أولى خطواته إلى داخل ذلك المنتدى وراها تروح وتجىء فى جمالها وزينتها على منصة التقديم وهى تشرح أفكارها وتفسير كلماتها بثقة ويسر والابتسامة الرقيقة تضىء وجهها سقطت عنه كل أسلحته وكبرياؤه وخيلاؤه. كانت رؤيتها تشبعه جسدا وروحا وتملء عينيه عن آخرهما فى كل مرة يزور فيها هذا المنتدى، حتى وجد نفسه ينتظرها أمام مكتبها لساعات طويلة حتى تفرغ مما فى يديها وتجد وقتا لتسمعه. قال لها إنه لن يذهب إلى أى مكان قبل أن توفق هى على قبول دعوته على عشاء بموقع تفضله هى ويسمح لهما بالحديث. ابتسمت عيناها وهى تسمعه وتستطلع قسماته الوسيمة الثرية وتحاول الوصول إلى أعماق عينيه وكامن فكره ومشاعره وهى ترشف رشفة رقيقة من ذلك الشراب الذى طلبه لها فور جلوسهما إلى طاولة المطعم الأنيق فى الحى الراقى باهظ الثمن.
تحدث حتى تعب وتصبب عرقا وهو يشرح ويفسر ويرجو ويتمنى ويأمل حتى تعب من الكلام وخر فى مقعده كوكومة من المراكبى القديمة. فقالت إنها توافق على طلبه ولا ترى مانعا من ذلك. كانت ذكية وكانت على حق، فقد كان شابا وسيما غنيا ناجحا تحوطه البهجة وآمال النجاح والتطور. فغشاه الفرح والسرور كما لم يفرح من قبل، فقد غزا لتوه قلب امرأة شابة جميلة ناجحة يتمناها الكثيرون ويحلمون بها. وصار لهما بيت جميل أنيق كبير، وكانت هى حقيقة فى جمالها وزينتها، فلم تكذب عشرتها شيئا من جمالها الذى أسره. وأنجبت له طفلتين جميلتبن مثلها وتملأن البيت فرحا ونورا. ولكنه تغير فجأة أو طفا على سطح روحه سوء كان باطنا، فبارت تجارته إلا قليلا وصار حادا فظا غير مفهوم الكلمات غير مقبول المنطق. وزادت حدته ولم يحتو نفسه ويلملم غضبه، بل راح يصب غضبه على زوجته وبيته حتى استحالت عشرته فترك بيته وأسرته دون عائل. عادت هى إلى عملها الذى كانت قد تركته، لتعول نفسها وبيتها وتجد طريقا آخر لحياة بديلة لحياتها الأسرية التى تحطمت. وهو يزداد عنادا وعصبية وعنفا ويرفض الطلاق ويرفض حكم القضاء ويرفض العقل كمن مسته الشياطين، فلا هو حى ولا هو ميت. كان بإمكانه تطليقها وتركها إلى غيرها أو إلى حال سبيله ما دامت الكراهية قد أصابت قلبه لسبب أو لأسباب تخصه أو تخصها، فالطلاق باب قبيح ولكنه باب أخير للنجاة من المشاكل ومن الهموم ومن الخناق المتصل ومن عدم الوفاق ومن الكراهية ومن شرور كثيرة. والطلاق - عند الحاجة - منفذ مشروع أوجده الخالق - عز وجل - إلى حياة جديدة وآمال جديدة. ولكنه آثر الاستماع إلى غضبه والى عنفه وإلى عناده الآثم، فقتل زوجته بيديه وانتهى به الحال سجينا مدى الحياة فقيرا معدما بلا أسرة وبلا مال وبلا ولد يسأل عليه، لأنه رفض حتى الباب الأخير.