الانتماء القبلي
من غرائب الأمور وعجائب الدهور أن هناك أشخاصا ولدوا ونشأوا وتوظفوا في المدينة، ومع ذلك فإنهم يعيشون بعقلية البدو في الصحراء، أو على أحسن تقدير بعقلية الريفي في قريته، ذلك أن الانتماء الوحيد الذي يعترفون به هو الانتماء القبلي، وقبيلة المدينة لا تقوم على صلات الدم مثل قبيلة الصحراء والمناطق المتخلفة حضاريا، بل على صلات شعارها "شيلني وأشيلك". وهكذا نجد في معظم مصالحنا الحكومية نظام الشلل، القائم على أساس أن مصلحة الشلة فوق المصلحة العامة، ولا بأس أن تُحطّم أفضل الكفاءات إذا كان ذلك من شأنه أن يخدم أحد أفراد الشلة حتى ولو كان عاطلا من أية موهبة إلا موهبة الانتماء للشلة. بل إن معظم أفراد الشلة لا يجمعهم إلا أنهم عاطلون من أية مواهب أخرى غير موهبة الحقد على الآخرين والتنكيل بهم.
ومن طقوس هذا النظام القبلي-واختلافه مع نظام القبيلة الأصلي المأخوذ عنه-أنه لا يواجه الآخرين أبدا وجها لوجه، إنه أجبن وأذكى من أن يفعل ذلك. إنه يترك لهؤلاء الآخرين أن يصرخوا ما شاءوا وأن يكتبوا الشكاوى ويرفعوا القضايا، بينما يتحرك أفراده في هدوء، وقد مدوا عيون أعوانهم إلى كل ركن من أركان المصلحة كما مدوا خيوط شبكتهم الواسعة إلى كل منطقة من مناطق النفوذ بها، ليفوزوا بالغنائم وينكلوا بكل من يحاول أن يقف في وجههم أو يكشف وجههم القبيح حتى ولو بمجرد إخلاصه لعمله ومثابرته وتحمسه – فهذه صفات يفتقدونها. وهكذا فإن لهم الأعمال ولغيرهم الأقوال، لهم التنفيذ ولغيرهم التنفيس. وقد يلقاك أحد أفراد الشلة فيبتسم لك ويسلم عليك بيد بينما تخفي يده الأخرى الخنجر. والمصيبة أن الجيل الأكبر يربي جيلا ناشئا على نفس التقاليد والطقوس ضمانا لاستمرار هذا الإخطبوط الرهيب.
إن وجود هذه القبيلة في مصالحنا الحكومية من أهم أسباب تخلفها وتخلفنا، لأنها لا تضم إلا الحاقدين والموتورين المتفرغين للوقيعة والدس ليطفوا على سطح حياتنا ويفوزوا بما لا يستحقونه بينما يعاقب كل مخلص متحمس على إخلاصه وتحمسه إلى أن يصاب باليأس والقرف.