مقصده البوح لا الشكوى
برع صديقنا المبدع محمد جبريل، صاحب الرصيد المجيد من الأعمال السردية رواية وقصة، وصاحب الهوى الإسكندرى الذى لا ينضب، أقول إنه برع فى كتابة نوع من الأدب الذى ينتمى إلى السيرة الذاتية، ولكنه يكتبه فى صيغة أعمال روائية لا تنقصها خصوبة الخيال، ولا مقومات الرواية فى تنامى الأحداث وعوامل التشويق وأخذ القارئ إلى مناطق لا تكتفى بالواقع، وإنما تغنيه بما هو فوق الواقع وحول الواقع وتحت الواقع، حدسًا وحلمًا واستخدامًا لشطح الخيال الذى يرود أرضا ومناطق لا يصل إليها إلا كاتب بارع فى امتطاء أجنحة اللغة واقتحام آفاق لا حدود لها إلا السماء.
وإذا كان قد اتكأ فى أعماله الروائية على أطراف من السيرة الذاتية فى سياقها العادى وتجارب حياته وهو ينتقل عبر مراحل العمر المختلفة من الطفولة إلى الصبا والمراهقة إلى الشباب والنضج واقتحام مجالات العمل وبناء الأسرة وتربية الأطفال فإنه اختص بشيء ربما لا نراه يتكرر كثيرًا فى الأدب، وهى تحويل الأمة التى أحس بها فى أثناء المرض والدخول لغرف الجراحة، إلى أعمال أدبية تسعد الناس، وهو يصف معاناته ومعاناة أسرته ويستبطن إحساس الإنسان وهو يواجه مباضع الجراحين أو يمر بلحظات القلق على حياته ذاتها، وله تجربة متميزة فى رواية تسجيلية، كتبها من وحى عارض مرضى مر به فى سنوات مضت هى رواية «الحياة ثانية»، واستطاع فعلًا القبض على تلك الأحاسيس التى تراودنا جميعًا ونحن نمر بمحنة المرض ونلتقى بالأم قد يصعب وصفها وصفًا دقيقًا إلا عبر قلم كاتب صهرته التجربة واستطاع أن يرتفع فوقها ويتأملها ثم يتمكن من صياغتها فى عمل أدبى كما فعل أديبنا الكبير الأستاذ محمد جبريل.
و«مقصدى البوح لا الشكوى» عمل إبداعى أدبى روائى، أسماه مؤلفه، رواية تسجيلية، صدر أخيرًا للكاتب يصف فيه معاناته مع المرض الأخير، الذى لابد أن القارئ الكريم قد قرأ عنه، باعتبار أن الصحف كانت قد تناولت ما حدث من تطورات تتصل بصدور قرار من الدولة بعلاجه على حسابها، فى إحدى مراكز الطب المتقدم، فى الخارج، بعد أن تعذر علاجه محليًا، وقد مرت الآن ثلاثة أعوام على صدور هذا القرار دون تفعيله، ودون أن نجد جهة ما تتحمس لتنفيذه، بعد أن حصلت عرقلات روتينية، لم تجد من أهل الهمة والعزيمة من يتفضل بإزالتها، المهم أنه من وحى محنة المرض، كتب محمد جبريل هذه الرواية التى أحال فيها معاناته إلى إبداع، وهو مرض تطور معه نتيجة عملية خاطئة فى الفقرات الأخيرة من العمود الفقرى، إلى أن جعله قعيدًا أو شبه قعيد لا يتحرك إلا بصعوبة ولا يخرج من البيت إلا مستعينًا بأحد أفراد أسرته حتى فى أثناء تردده على المستشفيات والأطباء، وقد هاتفته أطمئن عليه وأهنئه بعمله الجديد، الذى تفوق فيه على نفسه وعلى ضعفه وعلى حالة المرض، التى أحالها إلى جمال فنى، وظننى أتكلم على عمل آخر، لأنه أبلغنى بأن ما ظننته عملًا أخيرًا، هو «مقصدى البوح لا الشكوى» ليس هو آخر ما كتب من روايات وإنما صدرت له بعد هذه الرواية ثلاثة كتب أخرى بينها روايتان، ويقول لى إن أعماله الآن تجاوزت الأربعين رواية ولعله بهذا العدد يكون قد وصل الىإرقم قياسى بين الكتاب العرب المحدثين من كتاب الرواية الأدبية الجادة، وهى روايات ينافس فيها الكم الكيف، لأن محمد جبريل باعتراف كبار النقاد العرب قلم صاحب مدرسة خاصة به فى التناول والمعالجة، تميزت دائمًا بهذا الخيط الصوفى الذى يتخلل كل عمل من أعماله، وصاحب شخصية متميزة وبصمة هى بصمة محمد جبريل وصاحب عمق فى مقارباته الأدبية سردًا وبحثًا ومقالة نقدية، وما نرجوه أن نجد فى الدولة من يسعى إلى تفعيل القرار الذى صدر بعلاجه رفعًا للمعاناة عنه، وتقديرًا لما قدمه للأدب فى بلاده من جليل الخدمات.