تحت الأضواء
وقبل اختراع الكهرباء، وفيوض الأضواء التى غمرت أركان الأرض بسبب هذا الاختراع، كان تعبير تحت الأضواء موجودًا، ويعنى أهل الشهرة وذيوع الصيت، وكانت الأضواء حقًا أضواء حتى فى عهود سحيقة، عهود ما قبل الميلاد، مثل نجوم المسرح الإغريقى، الذى قدم أبطالًا فى التمثيل والرقص والغناء، قبل خمسة وعشرين قرنًا، مع مسرحيات أوديب واليكترا وحاملات القرابين والضفادع وغيرها وغيرها، كتبها نجوم التأليف المسرحى فى عصرهم سوفكليس واسخيلوس ويوريبيدس وأرستوفان، وكان هناك نجوم فى الفلسفة مثل ديوجين وسقراط وأرسطو وأفلاطون وكتاب تاريخ مثل هيرودوت وخطباء مثل شيشرون، وعرف العرب فى العصر الجاهلى نجومًا من أهل الشعر هم أولئك الذين علقوا قصائدهم بأستار الكعبة، واحتفظ الشعراء العرب فى العصور التالية بنفس المكانة، وأطلق على كبيرهم فى بلاط سيف الدولة، مالئ الدنيا وشاغل الناس، وهو أبو الطيب المتنبى، تعبيرًا عما بلغه من ذيوع وشهرة.
وجاء العصر الحديث بفتوحاته العلمية التى تعاقبت بعد اختراع الكهرباء، فتصدر المشهد فى مستهل هذه الحقبة نجوم الشاشة الفضية، فهى الفن السابع الذى استفاد من فنون قبله، وكان المولود الجديد للتقنيات الحديثة، واستقطب نجوم هذا الفن معظم الأضواء ولم يتركوا لغيرهم من أهل الفنون الأخرى إلا مساحة صغيرة من الضوء، إلا أن اختراعًا جديدًا جاء مثل الفك المفترس يلتهم كل ما سبقه ليحتكر الأضواء احتكارًا لا نظير له فى سالف الأزمنة، هو التلفاز، الذى صنع نجومًا من نوع جديد، وصنع ذيوعًا للأسماء أوصلها إلى أقصى بقاع الأرض بعد اختراع السماوات المفتوحة والنقل عبر الأقمار الصناعية، ولم يعد يحتاج هذا الصيت الكبير وهذه الشهرة وهذه الأضواء التى تجعل نجم التلفاز فى بؤرة الذاكرة البشرية، على مستوى الكرة الأرضية، موهبة ولا إلهاما، ولا جدارة فنية، ولا زيارات إلى وادى عبقر حيث يستلهم العباقرة ربات الفن والشعر، كن قارئًا أو قارئة لنشرة الطقس، بلا أى فكر ولا ثقافة ولا مؤهلات فى الصوت ولا فى الشكل والمضمون وأنت - ذكرًا أو أنثى- ضمنت الصيت والشهرة والذيوع، فمثلًا مذيع نشرة الطقس يدخل متجرًا وبجواره يدخل عبقرى من عباقرة الشعر مثل أدونيس، وهو صاحب اسم فى ميدان الشعر منذ سبعين عامًا، فستكون المفارقة مؤسفة وحزينة لأن كل الأنظار سوف تذهب لمذيع الطقس ولن يعرف أحد من أهل السوق هذا الشاعر الوريث لكل شعراء وادى عبقر العرب.