الطريق إلى أرض التوحش
يسمونها فى بلاد الغرب مثاليات الدراسة العليا أو بلغة أولئك القوم «High school ideals»، ويعنون بها تلك الحالة التى تتلبسنا عندما نتصور فى أول مراحل الشباب، أن هناك نظامًا سياسيًا مثاليًا عجزت أوطاننا عن أن تصل إليه، ولم تستطع الأنظمة السياسية فيها أن تكون قريبة منه، فنسعى إلى التمرد والثورة، أملًا فى إرغام أوطننا على القبول بهذا النظام البديل الذى نظن أنه يحقق ما نصبوا إليه من مثاليات، ولأنه ليس هناك نظام سياسى مثالى فى العالم، فإن ما يحدث غالبًا هو أننا نقع فى هوى نشرات حزبية خادعة، تقدم صورة وردية لمشروعها السياسى، وكل نشرة من نشرات هذه الأحزاب تدعى أن مشروعها هو الحل وهو الخلاص وهو طريق الشعب إلى النهضة وتحقيق العدالة وبناء مجتمع الحضارة، وتوفير السعادة والهناء والرخاء للمواطن، مهما اختلفت اتجاهاتها، قومية أو شيوعية أو دينية، أو غير ذلك، فكلها تقدم لقارئها عالمًا مفعمًا بالخير والجمال والمحبة والإنصاف والعدالة، وعندما نقارن هذه الصورة بالتطبيقات لحظة وصول هذه الأحزاب إلى الحكم والسلطة، نجد صورة عكسية لما تقوله النشرات، قمعًا وظلمًا وممارسات إجرامية ضد معارضيها وأصحاب الرأى المخالف لها، وعندئذ فقط يظهر زيف هذه النشرات وخداعها. وأنا هنا أتحدث عن تجاربنا فى العالم الثالث، وما شاهدنا فى العقود التى عاصرتها أجيال لا تزال على قيد الحياة عانت الويلات من أحزاب ظنتها وهى تلتقى بها فى المعارضة وقبل الوصول إلى الحكم ذات مبادئ ومثل وقيم نبيلة، ثم حصل العكس، ولا أدرى إذا كان هناك استثناء لمثل هذه الحالة، ولكنه إذا حدث فهو استثناء نادر جدًا، وقصير جدًا، لأن أقطار العالم العربى كانت حقل تجارب لكل أنواع النظريات السياسية فقد شاهدنا أقطارًا أعلنت عن تطبيقها للنظرية الماركسية الشيوعية وأخرى حكمتها أحزاب ذات توجهات قومية تسمى البعث أو الحزب القومى العربى، ورأينا أقطارًا حكمتها جماعات ذات توجهات دينية إخوانية أو سلفية، ورأينا بلدانًا عربية قالت إن أنظمتها ليبرالية وكلها للأسف الشديد كانت متشابهة فى القمع والقهر والفشل فى تحقيق مشروع النهضة والنماء وتوفير العيش الكريم السعيد للمواطن، كما كنا نقرأ فى نشراتها.
وأنا هنا أتحدث عن تجارب الماضى، آملًا أن تكون انتفاضات الربيع العربى، قد جاءت تؤسس فى بعض أقطار الوطن العربى لعهد جديد ومرحلة جديدة وأمل جديد، وأعود إلى القول إن هاجس البحث عن الصورة المثالية فى ذهن الفتى الذى باشر وهو يدخل مراحل الدراسة العليا أول تجاربه السياسية، قد يدخله فى متاهة لا حد لها، ويجعله ينسى معطيات الواقع، لأن النموذج الذى يحلم به نموذج لا وجود له فى الحياة، ومع ذلك يسيطر على عقله وقلبه، فنجده يركض وراء الوهم، يحاول أن يقبض عليه، وتكون النتيجة وقوعه فى مرض الفصام بينه وبين الواقع، وهى حالة قد تدفع به إلى الوقوع فى مصيدة الجماعات التى تحمل تصورًا للعالم تسعى لتنفيذه وفرضه بالتوحش والإجرام. يبدو صعبًا الربط بين المثاليات التى شكلت البدايات، والمآلات المرعبة التى أوصله إليها هذا الطريق، أرض التوحش والإجرام والولوغ فى دم الأبرياء، لكنها حالة عمى، وتيه وضياع، لا يحكمها منطق ولا قانون ولا وجود فيها لعلة ولا معول، ولا سبب يرتبط بنتيجة، إنه الجنون، جنون التوحش والإجرام والرعب.