العابثون بالقيم
قرأت لبعض الزملاء الكتاب فى مصر مقالات وتعليقات يعبرون فيها عن استيائهم لوجود جهات لا تحمل تخويلًا ولا تفويضًا ولا تأهيلًا يعطيها حق القيام بمثل هذا العمل وهو التصدى لمنح شهادات التكريم والتفوق والجدارة لأناس فى مجالات فنية وأدبية ورياضية، وربما أخرى لها علاقة بالمهن ذات الطبيعة التقنية الحرفية، ويعتبرون مثل هذا العمل يجب أن يكون حكرًا على مؤسسات تتبع الدولة وتحتكم إلى قواعد فى التحكيم والتقويم معترف بها، ولجان ذات تأهيل وتخصص وشخصيات ذات مرجعية وسجل حافل بالإنجاز، فى هذه المجالات، قادرة على الفرز والاختيار وإصدار الأحكام النزيهة، وليس عملًا عشوائيًا مثل الذى تمارسه هذه الجهات، والذى يشكل بالتالى عبثًا بالتقاليد والقيم وإفسادًا للحياة العامة خاصة فى هذه المجالات التى يتم فيها التكريم ومنح الألقاب والشهادات دون الرجوع إلى مساطر واعتبارات علمية منهجية، فيختلط بالتالى الجيد بالرديء والحق بالباطل وأهل الجدارة بأهل البطالة والعطالة.
وإذا كان هذا يحدث بشكل محدود فى مصر، فإنه فى بلدان مثل ليبيا تغيب فيها الدولة ومؤسساتها غيابًا مؤسفًا، وتتضاءل فيها سلطة القانون إلى حدها الأدنى، ويختلط فيها الحابل بالنابل اختلاطًا تضييع خلاله الألوان والأوراق وتختفى الأسس السليمة للفرز والتقويم، فإن ما يحدث من فوضى الآراء والأفكار والأحكام والممارسات، يصل إلى درجة كارثية، لأن التقييم العشوائى الذى يحدث أحيانًا فى مصر يقابله من ناحية أخرى تقييم له قواعد وأسس تقوم به مؤسسات عريقة ثقافية وفنية وأكاديمية، تملك تراكم الخبرة وتمارس هذا العمل منذ عقود كثيرة مضت، واستفادت من هذا الاحتفاء والتكريم الذى يقدم إلى نجوم الفن والأدب والفكر والرياضة، وأهل النبوغ فى الحرف والمهن المختلفة، أجيال بعد أجيال، أما فى ليبيا فإن هذا النشاط العشوائى صار وحده الموجود فى الميدان، وهو الذى يتسيد على المشهد، لا ينافسه عمل مؤسساتى يقوم على مبدأ الجدارة والاستحقاق، وإنما كما هو الحال مع هذه الجهات التى قد يكون المتحكم فيها فردًا أو شلة من الناس، تقوم على المزاج والمحاباة والعلاقات الشخصية والنزوات الخاصة.
ولابد من وضع احتمال أن بعض هذه الجهات توخت بعملها هذا خدمة الحياة الثقافية والمهنية، وانطلقت من نوايا طيبة، تريد بها تنشيط وتفعيل بعض هذه المجالات وإنصاف العاملين فيها، ولكنها للأسف الشديد أضرت بالعاملين فى هذه الحقول بدل إفادتهم، وأدخلت الخلل بها بدل عملها على تطوير هذه المجالات والنهوض بها، لأن النهوض لا يتحقق بخلط الأوراق والعبث بالقيم والتقاليد وإنما بإرساء هذه التقاليد وحراستها وتثبيتها والعمل على ترسيخها فلا ينال التكريم إلا من يستحقه، ولا يصل نوط الشرف إلا إلى من هو أهل له، من أصحاب المكانة الرفيعة فى هذا المجال من مجالات الفن أو الأدب أو المعرفة، وفى هذه المهنة من مهن الطبابة أو الحقوق أو المجالات الأكاديمية والعلمية المختلفة. نعم للاحتفاء بالمفكرين والمبدعين فى مجالات الأدب والفن والعلوم، وأهلًا بمجتمع يكرم المتفوقين من أبنائه فى كل مجال من مجالات الحياة، ويصنع القدوة والمثل الذى تحتديه الأجيال الجديدة، فهذا الاحتفاء وهذا التكريم هو جزء من حيوية المجتمع، وجزء من سعيه لتوسيع دائرة اهل التفوق والإبداع، ولكنه احتفاء لابد أن يتم على أسس سليمة لكى لا ينقلب السحر على السحر، ونأتى بالضرر ونحن نتوخى الخير ونسعى إليه.