صفحات من تاريخ الحركة الوطنية المصرية (3)
صفحات من تاريخ الحركة الوطنية المصرية (3)
سيد درويش ودوره فى ثورة 1919
مصطفى إبراهيم طلعت
تناولنا فى الحلقتين السابقتين كيف تطوع سيد محمد باشا فى حملة التوقيعات على توكيل سعد زغلول للمطالبة بالاستقلال؛ وكيف حقق نجاحًا مبهرًا فى مهمته الصعبة وجمع وحده عشرات آلالاف من التوكيلات لسعد زغلول، على الرغم من الأحكام العرفية التى كانت تقبض وتحاكم كل من يضبط وهو يقوم بهذا الأمر.
يروى سيد محمد باشا فى مذكراته: "اخترت من مدرسة المعلمين العليا أنا وزميلى محمود عوضين طه؛ وعن الجامعة الأهلية يوسف العبد وحسن الهلالى، وكنا نعمل ليلًا ونهارًا، وألفت اللجنة خلية منى أنا ويوسف العبد لعملية الاتصال بمندوبى الأرياف، لتوصيل منشورات وبيانات سعد زغلول، وأستأجرنا غرفة فى بركة الفيل لنطبع فيها الجريدة السرية".
وأمكن تأليف لجان للطلبة فى كل مدينة فى القطر كله من القاهرة إلى أسوان، وأصبح للطلبة شبكة تحت الأرض يمكنها نقل التعليمات والمنشورات إليها فى وقت قصير، وفى الوقت نفسه تألفت لجان فى كل قرية ومدينة وإقليم للقيام بالعمل العلنى، وكانت ساعة الصفر المحددة للانفجار هى ساعة اتخاذ الإنجليز أى إجراء ضد سعد زغلول.
وسرعان ما حانت اللحظة فقد ارتكب الإنجليز خطأ القبض على سعد زغلول ورفاقه عبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى يوم 8 مارس 1919، ونفيهم إلى جزيرة مالطا وكانوا يظنون أن ما اتخذوه من إجراء، سوف يقضى على فكرة الاستقلال التى طالبوا بها، ولم يدر فى ذهنهم أن سعد وجهازه السرى كان قد أعد العُدة لهذه اللحظة.
وفى 9 مارس اشتعلت مدن مصر وقراها بتظاهرات وطنية غاضبة، بدأت بتظاهرات سلمية؛ ثم تطور الوضع فى اليوم التالى إلى قطع الطريق وتعطيل السكك الحديدية، وإضراب فئات كثيرة عن العمل، بعدما استخدم الإنجليز الرصاص لردع المتظاهرين وقتلوا اثنين (مجهولى الهوية) منهم، ثم قُتل فى اليوم الثالث أول ثلاثة معلومين وهم الطالب محمد عزت البيومى (وهو عم الدكتور محمد أشرف البيومى أستاذ العلوم والوطنى المعروف) وكل من عبدالفتاح محمود جاد وطلبة حسن، مما زاد المظاهرات اشتعالًا فى كل الأنحاء؛ ففى أسيوط قام مأمور بندر أسيوط البكباشى محمد كامل محمد بقيادة مظاهرة ضخمة هاجمت الجيش البريطانى واشتبكت معه، وقبض عليه وقدم لمحاكمة عسكرية حكمت عليه بالإعدام ونُفذ الحكم فى 10 يونيه 1919، واشتعلت غضبة مصر كلها وكان خلف كل تظاهرة صوت جهورى يحث الناس على الاستمرار فى مواجهة الإنجليز والتصدى لهم ويذكرهم بأمجاد أجدادهم العظام، هو صوت الفنان الوطنى سيد درويش الذى لعب دورًا خطيرًا فى الثورة مع رفيقه بديع خيرى، حيث ظهر فى اليوم الأول للثورة على عربة حنطور، ممسكًا عوده ومنشدًا نشيد الثورة " قوم يا مصرى " الذى انتشر بسرعة البرق.
اشتداد قمع الإنجليز وسقوط عشرات الشهداء أديا إلى اشتعال الثورة، ولم يفلح القمع والترويع والترهيب وفرض الطوارئ وإظلام الشوارع فى وقف تناميها، وفى 16 مارس 1919 اهتزت له مصر من أقصاها إلى أقصاها، بأصوات ناعمة تجوب شوارع القاهرة تهتف: "سعد سعد يحيا سعد.. ونموت نموت وتحيا مصر.. والاستقلال التام أو الموت الزؤام"؛ أربك هذا المشهد مصر كلها فلم تشارك النساء المصريات طيلة تاريخها فى أية مناسبة سياسية، فكان لأول تظاهرة نسائية مفعول السحر، برغم أنها لم تتجاوز 300 سيدة تجمعن أمام بيت سعد زغلول، إلا أنها أعادت الروح للثورة، وشحذت الهمم من جديد، واشتعلت الثورة فى هذه المرة كالبركان، ولم يسقط شهداء فى ذلك اليوم، لكن فى 18 مارس سقط تسع شهداء وكان من بينهم امرأة هى سيدة حسن، وكانت ثانى امرأة تسقط شهيدة للثورة، بعد سقوط حميدة خليل من كفر الزغاوى بالجمالية والتى يعتبرها المؤرخون أول شهيدة من النساء.
وهكذا أدرك الجهاز السرى أن حمل السلاح بات مفروضًا عليهم فى مواجهة الرصاص الإنجليزى الذى راح يحصد الأرواح من دون أن يفرق بين رجل وامرأة، وجاء تأسيس جماعة "اليد السوداء" لعقاب الخونة، ولتكون يدًا باطشة لا ترحم أى خائن للوطن.
جاء إلى سيد باشا زميله يوسف العبد هامسًا بأنه على علاقة بشاويش إنجليزى، يمكن إغراؤه بالمال ليأتى بسلاح لهم، وأعجبت الفكرة سيد باشا وتم الاتصال بالشاويش الذى فاجأهم بإمكانية بيعه مسدسه بجنيهين (جنيهان مصريان فى عام 1919 كانت تعد ثروة ليست بالقليلة وكان الجنيه المصرى أعلى فى القيمة من الجنية الذهبى الإنجليزى)، وهكذا امتلكت الثورة والجهاز السرى أول مسدس وكانت البداية.
وفى إبريل من نفس العام قرر الجهاز التوسع فى جمع السلاح، وكانت المشكلة أن جميعهم طلبة لا يملكون نقودًا كافية! وعليه قرر سيد محمد باشا ويوسف العبد التوجه إلى شخصية وطنية من أعضاء الجهاز لتجمع التبرعات لهذه المهمة، فتوجها إلى عبد اللطيف بك الصوفانى وهو من الأعيان، وعرضوا عليه الفكرة فتحمس لها وقدم عشرة جنيهات، كانت بمثابة التمويل الأول للجهاز أو بالتحديد التمويل الأول للجنة الطلبة؛ وتوجه الاثنان إلى الشاويش الإنجليزى وأعطياه خمسة جنيهات وطلبا منه مسدسات وقنابل؛ وبعد يومين جاءهم بمسدس وقنبلتين، فقاما بإعطائه خمسة جنيهات أخرى، فأحضر لهم مسدسين وقنبلتين جددًا، وهكذا أصبحت الخلية السرية تمتلك ترسانة سلاح مكونة من أربعة مسدسات وأربع قنابل، وكانت حالة المسدسات جيدة أما القنابل فكانت غير صالحة فقد عفى الزمن عليها، وكان لابد من التفكير فى قيام الخلية بصنع القنابل بنفسها معتمدة على إمكانيتها وموادها الخاصة!!؟ "وللحديث بقية".