”أحلام” نجيب محفوظ توجهنا إلى أفريقيا
حين نحاول الوقوف فى رحاب نجيب محفوظ، وأمام إبداع "أحلام فترة النقاهة" كونه شكلًا جديدًا من أشكال السرد الأدبى، وإعجازًا آخر يضاف لنجيب محفوظ فلابد أن تقلق، وهذا ما عشته منذ أن بدأت أفكر فى هذا الوقوف فى تلك الرحاب وبخاصة أن هذا الشكل التجريبى العجائبى للكتابة السردية الذى يبدو وكأنه عفوى ينطق على عمل مركب يقوم على النظام والأمانة المطلقة، ويحرر الموضوع والشخصية الحدث / الفعل الإبداعى من آنية اللحظة، ويصدرها إلى أفاق المطلق ومداه اللانهائى واللاشخصى، والسرد هنا لا يسير فى خط مستقيم بل هو أشبه بارتماء الأمواج على الشاطئ وانسحابها عنه، ويثمر هذا التكنيك نصًا متوهجًا محمومًا، لكنه مكتوب بدقة ورهافة، وهو فى النهاية استكشاف وتأويل للمسكوت عنه، والمضمر لأسرار الوجود والزمن والموت والعدم وفهم البحث عن تراجيديا الإنسان من المهد إلى اللحد.
وهذه الكتابة الإبداعية التى تأخذ فى رأينا شكل آليات إخراج وعمل الحلم، إذ يكتب نجيب محفوظ إبداعًا جديدًا يشبه شكل الحلم من حيث مضمونه وطريقة إخراجه، يتبدا ذلك فى رواياته التاريخية فى البداية ثم الواقعية، ثم الرمزية وأخيرًا الأحلام – ذلك الشكل واللون الإبداعى الجديد، وقد غلب على هذا الشكل من الإبداع تحميله بكل ألوان الصور البلاغية والتعبيرات العاطفية والرمزية والصوفية التى تناسب المرحلة العمرية التى بلغها نجيب محفوظ، وقد صيغت تلك الكتابة الأدبية وفق آليات إخراج الأحلام من حيث الرمزية والتكثيف والإزاحة.. إلخ.. وإليكم الحلم – أحد أحلام فنرة النقاهة - الذى تنبأ فيه نجيب محفوظ بأزمة المياه الحالية والتى تعيشها مصر منذ الشروع فى بناء سد النهضة الأثيوبى.
نص الحلم:
"رأيتنى فى مدينة غريبة جميلة المعمار وكلما دخلت بنسيونًا أجده يتكلم لغة غريبة حتى وصلت إلى بنسيون تديره امرأة زنجية اللون جميلة القسمات والملامح، فقلت لها: هنا يمكن أن أقول ما أريد وأن أسمع ما يقال، فقالت لى: وأيضًا الحياة هنا لا تقل فى رقيها عن أحسن البنسيونات الأخرى".
فى هذا الحلم يلفتنا نجيب محفوظ إلى ضرورة أن نيمّم فى واحد من اهتمامنا إلى أفريقيا التى ننتمى إليها جغرافيًا، حيث تظهر المرأة الزنجية اللون والجميلة القسمات، خاصة وهو يرى جمهرة من المثقفين المصريين لا يرون الخير إلا فى التوجه نحو الثقافة الغربية فى أوروبا باتجاه البحر المتوسط شمالًا أو أمريكا، ويأتى ختام الحلم بأن الحياة فى أفريقيا لا تقل فى رقيها عن الحياة الغربية، كما يتحدث نجيب محفوظ بوعى غريب فهو يرى أن أفريقيا لابد وأن تدخل فى موازنات القوى ثقافيًا وسياسيًا، وهل نستطيع أن نؤوّل النص "الحلم" إلى تحذيره من مغبة ترك الساحة الأفريقية للأيدى الإسرائيلية والأمريكية، التى يمكن أن تهدد الأمن القومى لمصر بتأجيج الصراع على مصادر المياه "يقصد النيل وحصة مصر منه" – نلاحظ بعد ذلك الحلم الذى كان 2006 بثلاث سنوات تقريبًا أى فى عام 2009 تظهر مشكلة تقسيم مياه نهر النيل على أشدها باعتبارها أخطر مشكلة يمكن أن تواجه الوطن فى المستقبل ولا يخفى أن هذا الحلم المعجزة والنبؤة قد نبهنا إلى ذلك الخطر - أو الفتن التى قد تنشأ فى السودان وتؤثر على مصر – لا يخفى أن مسألة تقسيم السودان كانت وشيكة الحدوث وما هى إلا شهور قليلة وصارت الدولة الجديدة فى الجنوب أمرًا واقعًا بالفعل وقد يحدث انفصال لإقليم دارفور فى المستقبل، والغريب أن السودان يضغط على مصر فى هذا الملف فتارة يؤيد حقوق مصر فى مياه النيل وتارة يميل للجانب الإثيوبى وهلم جرا - أو إثيوبيا – التى تتزعم ضرورة خفض حصة مصر من مياه النيل ولا غرابة فى موقفها حين نعلم أن لها علاقات وثيقة بإسرائيل، وأن المخابرات الإسرائيلية هى التى صاغت مشروع سد النهضة، ولا ننسى أنها دعمتها من خلال هجرة اليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى إسرئيل خلال السنوات الماضية - أو غيرهما مما يؤثر على مصر، وأحسبنا سنقدر هذا الحلم إذا لم ننتبه لفهمه وإعادة قراءته من جديد– وبالفعل لم نتبه له وقال نجيب محفوظ كلمته وخلد إلى الرفيق الأعلى، وخاصة أن الأزمة الحالية بعد بناء سد النهضة على أشدها.