«ضربات القدر» بين بيتهوفن ونجيب محفوظ
يقول نجيب محفوظ: "حلمت بأننى كنت سائرًا فى أحد الشوارع وينتابنى خوف بسبب وجود بعض قطاع الطرق الذين يهاجمون المارة ويسرقونهم وقد يصيبونهم بأذى أيضًا بالمطاوى والسكاكين التى يحملونها، ووسط خوفى هذا قابلت بالمصادفة صديقى المرحوم الدكتور حسين فوزى الذى أصبح يظهر الآن بشكل متكرر فى أحلامى، وما أن رأيته حتى قصصت عليه قصة هؤلاء المجرمين الخارجين على القانون والذين يتربصون بالناس فى الطريق العام، فقال لى حسين فوزى على الفور: ده أنا أمنيتى أن أقابلهم.. إلحقنى بهم فدهشت لذلك لكنى أخذته إلى حيث يوجدون وتركته ومضيت إلى حالى، وبعد فترة جاءنى الدكتور حسين فوزى يقول: تعالى بقى شوف الحرامية بتوعك! فذهبت معه وأنا ما بين الخوف وحب الاستطلاع، فوجدت المجرمين الذين كنت أخافهم وقد ارتدوا البدل السموكنج السوداء مثل عازفى الأوركسترا وأمام كل منهم النوتة وفى يده آلته، وهنا قال لى الدكتور حسين فوزى حاسمعك دلوقت سيمفونية بيتهوفن الخامسة! وبالفعل عزفت لى أوركسترا قطاع الطرق السيمفونية الخامسة لبيتهوفن".
هذا الحلم يستمد قيمته من واقع حقيقى عاشه نجيب محفوظ ولم يتدخل فيه بالإبداع، وإذا استحضرنا عناصره ودلالاتها فسنكون أمام العناصر التالية: بيتهوفن والسيمفونية الخامسة، واللصوص والسكاكين والمطاوى، ولقد كان الحدث الأصعب فى حياة نجيب محفوظ يوم الجمعة الخامس عشر من أكتوبر 1994، عندما تعرّض له شاب غضّ لم يقرأ كلمة مما كتبه ولم يكن يعرفه، وطعنه أسفل عنقه وفرّ هاربًا إلى أن ألقى القبض عليه، ويتذكر نجيب محفوظ الحادث قائلًا "إننى لم أر الشاب الذى اعتدى على، لم أر وجهه، الذى حدث هو أننى وأنا أهم بركوب السيارة لأذهب لموعدى مع أصدقائى فى الندوة الأسبوعية، وجدت شخصًا يقفز بعيدًا وكنت قد شعرت قبلها بثوانٍ معدودة وكأن وحشًا قد أنشب أظافره فى عنقى، وقد دهشت ولم أدرك بالضبط ما حدث، لكنى حين شاهدت هذا الشخص يرمى خنجرًا كان فى يده فهمت على الفور ما حدث، وعرفت أن هذا الخنجر هو الذى كان فى عنقى، وبدأت أشعر بالدماء تنزف من عنقى فوضعت يدى على رقبتى لأوقف النزيف، بينما انطلق صديقى الدكتور هاشم فتحى بالسيارة إلى مستشفى الشرطة المقابل لبيتى، وعندما وصلنا السلم الذى توقفت السيارة عنده، بعض الناس الذين لا أعرف من هم أصروا على حملى وأصررت أنا على السير، ولا أكاد أذكر ما حدث بعد ذلك"، وعانى نجيب محفوظ بسبب الحادث، ووهن جسده وخفّ بصرُه، وثقل سمعه، وقلّت حركته، وتقلّصت مشاويره، وتحدّد المقربون منه، ولكنه عاد ليزاول الإبداع ويكتب، وأصدر العديد من الأعمال. ويتأكد أن اللصوص والمطاوى والسكاكين فى الحلم يرمزون إلى المجموعة الإرهابية التى حاولت قتله، وكان يتمنى من مثل هؤلاء أن يحتفوا به بدلًا من محاولة قتله، وكما يلاحظ فى الحلم أن نجيب محفوظ صاحب طبيعة مسالمة محبة للحياة والخير والناس ومتعاطف مع الطبقة المتوسطة فى المجتمع، وأنه لم يغير عاداته من حيث المشى فى الشوارع والجلوس فى المقاهى، ومن الثابت أن نجيب محفوظ طلب العفو عن المتهم فى القضية، كما عبر الحلم عن تأثير اضطراب الضغوط التالية للصدمة عليه حيث يستحضر جانبًا كبيرًا من "الأزمة" الحدث المؤلم بحيث يتذكر الخوف المصاحب له وفزعه من اللصوص وقطاع الطرق ونجاته منهم وعفوه عنهم.
وهكذا نلاحظ أن عناصر الحلم ورموزه بالرغم من تعددها إلا أنها استوفت من الواقع الذى عاشه نجيب محفوظ، متمثلًا فى محاولة الاغتيال وصديقه حسين فوزى وقراءاته الواسعة، وعلاقته بالفن والموسيقى والسيمفونية الخامسة الرائعة لبيتهوفن "ضربات القدر".
بهذا فقد توحد "بيتهوفن" الذى كان مصابًا بالصمم بنجيب محفوظ، المصاب بضعف فى سمعه اقترب من الصمم فى سنواته الأخيرة وضعف بصره، وبرغم ذلك عاش ليبدع، وكذلك بيتهوفن أبدع أعظم أعماله فى ظل فقدان السمع، وعندما نعرف أن السيمفونية الخامسة تحمل عنوان "ضربات القدر" يبدو لنا الحلم فى تجليه بحيث يكون هو الآخر "ضربات القدر"، فضربات السكين فى رقبة نجيب محفوظ فى محاولة الاغتيال تشبه ضربات القدر فى السيمفونية الخامسة.
وينظر التحليل النفسى لهذا الحلم النقى الحقيقى لنجيب محفوظ إلى أنه دلالة على مروره بأعراض اضطراب الضغوط التالية للصدمة، وإحساسه العميق بالإيمان بالقدر، وكان اختياره لرموز الحلم تعبيرًا صادقًا جدًا عن بنائه النفسى عميق الإيمان بالله، فقد قال محفوظ: "والله الذى حفظنى إذا أراد أن يحفظنى سيحفظني: أما إذا كان الله يريد الأخرى فنحن أيضًا نحب أن نلقاه"، فهو متسامح مع المخطئين ومؤمن بدور الفن فى علاج المجرمين وحتى الإرهابيين.
وحين يتخذ الدكتور سامح همام – الذى أوجده الله بقدره فى مصعد المستشفى – القرار الصائب دون تردد حين راحوا يتعاملون مع الفقرة العنقية دون تلكؤ فيحقق الله معجزة الشفاء على أيديهم، وتكون النجاة من الشوطة – قتل المبدعين – التى تنبأ بها نجيب محفوظ فى الحرافيش واستبصر بها قبل أكثر من ربع قرن.