الثنائيات والتوازنات فى روايات نجيب محفوظ
تفتحت عيناى فى مرحلة الصبا - أول ما تفتحت - على عالم روايات نجيب محفوظ الرحب بشخوصه المتنوعة المتباينة، وزاد من تعلقى به أن والد جارى ورفيق من رفقاء الطفولة وهو المرحوم الأستاذ أحمد زكى مخلوف كان أحد الحرافيش، وكان كلما عاد من الرياض حيث يعمل ويقيم، يزوره أصدقاؤه من شلة الحرافيش، ومن رؤيتى لهم وحديثه عن المجموعة حملت فى قلبى إكبارًا وتقديرًا لهم.
وتنامى ارتباطى بعالم محفوظ وشخوصه بدخولى كلية الآداب ودراستى الأدب العربى، إذ أتاحت لى الدراسة تلمس مواطن الجمال والإبداع فى أدبه، واستوقفنتى طريقته فى رسم الشخصياته، وقدرته الفذة على إعطاء كل شخصية مساحة من الاهتمام فى حدود الدور المرسوم لها، واعتماده الثنائيات والتضادات فى تصوير الجوانب المضيئة أو المظلمة فى حياتنا، وهى ثنائيات موجودة داخل كل منا، والعبرة فى كيفية تعامل الروائى معها واستيعابه لتناقضاتها، وقد تميز محفوظ بقدرته الفائقة على التعبير عن شخصية ابن البلد بالفصحى مع ما يمثله ذلك من صعوبة متناهية، فإجراء حوار روائى بالفصحى بين أشخاص يجلسون على قهوة شعبية أمر صعب للغاية يمثل قمة التمكن، ولا يقدر على تحقيقه إلا من دانت له ملكات البلاغة والفصاحة، وربما كان ذلك من أسباب جودة رواياته وعمقها.
كنت معجبًا بطريقة تقديمه شخصية "سى السيد" بتناقضاتها وواقعيتها، فأسلوب الأستاذ يقوم على خلق التوازنات، وهو لا يرسم صورة بالأبيض والأسود، لكنه يقدم مثل عالم النفس تفصيلات تكشف مكامن الخير والشر فى كل شخصية، يفعل ذلك بأسلوب المحلل البارع الذى يمتلك قدرة على توصيف الشخصيات، فلا يشعر القارئ أنه أمام شخصيات روائية وإنما شخوص حقيقية، ومثل "سى السيد" كثير فى بلادنا العربية، وربما كان هذا سبب توهم بعضهم - متأثرًا بالتقديم الدرامى السينمائى والتلفزيونى للرواية - أن "سى السيد" الشخصية المحورية، فيما هى " الست أمينة"، التى أساء ابنها فهمها حين وصفها بـ"الرقة الجاهلة" وهى تفيض ذكاءً، فسكوتها عن تصرفات زوجها وطاعتها وخضوعها له لم يكن ضعفًا، وإنما إدراكًا منها لأهمية الحفاظ على صورة رجل البيت أمام أبنائه، وهو مالم تفهمه "هنية" أم "يس" فتشردت، ولأن "الست أمينة" الشخصية المحورية للرواية، فقد بدأ بها محفوظ ثلاثيته وبها اختتم، فيما حكم على "سى السيد" بالفناء فى منتصفها.
استوقفنى أيضًا أسلوبه فى رسم شخصيات "يس" فى الثلاثية، و"حسانين" فى بداية ونهاية، و"عيسى الدباغ" فى السمان والخريف، و"محجوب عبد الدايم" فى القاهرة الجديدة، وغيرهم، وبرغم اختلاف تكوين كل شخصية ونوعية انحرافها، إلا أن صفة مشتركة جمعتهم، هى إساءة كل منهم التعامل مع الظروف التى أدت لإنحرافه عن جادة الصواب.
وبالمثل فإن أسباب سقوط "سناء الرشيدي" فى ثرثرة فوق النيل، تختلف عن أسباب سقوط "نفيسة" فى بداية ونهاية، و"حميدة" فى زقاق المدق، فالأولى سقطت لهرولتها خلف الشهرة والمال عبر الطريق الخطأ، والثانية كان سقوطها وليد حرمان جسدى ونفسى ومادى، أما الثالثة فقد قادها تمردها على واقعها الاجتماعى إلى النهاية نفسها التى بلغتها الأخرييان، فالنهاية واحدة والأسباب مختلفة.
فروايات محفوظ تخضع للشخصية وليس العكس كما قد يظن القارئ، إذ كان يحتفظ بفهرس للشخصية التى يكتب عنها بدءًا بتكوينها النفسى، ومرورًا بأفكارها وأيديولوجيتها وانتهاء بصفاتها الجسدية، وهذا سر مرونة شخصياته وقدرتها الفائقة على التحرك والتفاعل مع الحياة والكون من حولها.
لقد كان محفوظ قامة وقيمة، وحالة خاصة فى الأدب العربى يندر أن تتكرر، ولابد أن يحظى أدبه بالتناول اللائق به وبمكانته العالمية، لأنه لا يدرك جله ما لم يقرأ كله، وهناك جوانب عدة من جوانب إبداعه لا تزال تحتاج إلى دراسات متعمقة، منها جانب الفيلسوف والسياسى والمؤرخ والمصلح الاجتماعى، فضلًا عن طريقته فى بناء شخصياته ومدى نجاحه أو قصوره فى وضع ملامحها، والجانب التشكيلى فى أعماله، حيث قدم رؤية تشكيلية للحارة المصرية التى هى بمثابة الحاضنة فى رواياته وقصصه، رؤية تحمل ألوان الطيف فى تنوعها وتباينها، مما يسهل على دارسيه رصد مختلف ملامحه، وتشكيل صورة شاملة لجوانب إبداعه.
الثنائيات والتوازنات فى روايات نجيب محفوظ
تفتحت عيناى فى مرحلة الصبا - أول ما تفتحت - على عالم روايات نجيب محفوظ الرحب بشخوصه المتنوعة المتباينة، وزاد من تعلقى به أن والد جارى ورفيق من رفقاء الطفولة وهو المرحوم الأستاذ أحمد زكى مخلوف كان أحد الحرافيش، وكان كلما عاد من الرياض حيث يعمل ويقيم، يزوره أصدقاؤه من شلة الحرافيش، ومن رؤيتى لهم وحديثه عن المجموعة حملت فى قلبى إكبارًا وتقديرًا لهم.
وتنامى ارتباطى بعالم محفوظ وشخوصه بدخولى كلية الآداب ودراستى الأدب العربى، إذ أتاحت لى الدراسة تلمس مواطن الجمال والإبداع فى أدبه، واستوقفنتى طريقته فى رسم الشخصياته، وقدرته الفذة على إعطاء كل شخصية مساحة من الاهتمام فى حدود الدور المرسوم لها، واعتماده الثنائيات والتضادات فى تصوير الجوانب المضيئة أو المظلمة فى حياتنا، وهى ثنائيات موجودة داخل كل منا، والعبرة فى كيفية تعامل الروائى معها واستيعابه لتناقضاتها، وقد تميز محفوظ بقدرته الفائقة على التعبير عن شخصية ابن البلد بالفصحى مع ما يمثله ذلك من صعوبة متناهية، فإجراء حوار روائى بالفصحى بين أشخاص يجلسون على قهوة شعبية أمر صعب للغاية يمثل قمة التمكن، ولا يقدر على تحقيقه إلا من دانت له ملكات البلاغة والفصاحة، وربما كان ذلك من أسباب جودة رواياته وعمقها.
كنت معجبًا بطريقة تقديمه شخصية "سى السيد" بتناقضاتها وواقعيتها، فأسلوب الأستاذ يقوم على خلق التوازنات، وهو لا يرسم صورة بالأبيض والأسود، لكنه يقدم مثل عالم النفس تفصيلات تكشف مكامن الخير والشر فى كل شخصية، يفعل ذلك بأسلوب المحلل البارع الذى يمتلك قدرة على توصيف الشخصيات، فلا يشعر القارئ أنه أمام شخصيات روائية وإنما شخوص حقيقية، ومثل "سى السيد" كثير فى بلادنا العربية، وربما كان هذا سبب توهم بعضهم - متأثرًا بالتقديم الدرامى السينمائى والتلفزيونى للرواية - أن "سى السيد" الشخصية المحورية، فيما هى " الست أمينة"، التى أساء ابنها فهمها حين وصفها بـ"الرقة الجاهلة" وهى تفيض ذكاءً، فسكوتها عن تصرفات زوجها وطاعتها وخضوعها له لم يكن ضعفًا، وإنما إدراكًا منها لأهمية الحفاظ على صورة رجل البيت أمام أبنائه، وهو مالم تفهمه "هنية" أم "يس" فتشردت، ولأن "الست أمينة" الشخصية المحورية للرواية، فقد بدأ بها محفوظ ثلاثيته وبها اختتم، فيما حكم على "سى السيد" بالفناء فى منتصفها.
استوقفنى أيضًا أسلوبه فى رسم شخصيات "يس" فى الثلاثية، و"حسانين" فى بداية ونهاية، و"عيسى الدباغ" فى السمان والخريف، و"محجوب عبد الدايم" فى القاهرة الجديدة، وغيرهم، وبرغم اختلاف تكوين كل شخصية ونوعية انحرافها، إلا أن صفة مشتركة جمعتهم، هى إساءة كل منهم التعامل مع الظروف التى أدت لإنحرافه عن جادة الصواب.
وبالمثل فإن أسباب سقوط "سناء الرشيدي" فى ثرثرة فوق النيل، تختلف عن أسباب سقوط "نفيسة" فى بداية ونهاية، و"حميدة" فى زقاق المدق، فالأولى سقطت لهرولتها خلف الشهرة والمال عبر الطريق الخطأ، والثانية كان سقوطها وليد حرمان جسدى ونفسى ومادى، أما الثالثة فقد قادها تمردها على واقعها الاجتماعى إلى النهاية نفسها التى بلغتها الأخرييان، فالنهاية واحدة والأسباب مختلفة.
فروايات محفوظ تخضع للشخصية وليس العكس كما قد يظن القارئ، إذ كان يحتفظ بفهرس للشخصية التى يكتب عنها بدءًا بتكوينها النفسى، ومرورًا بأفكارها وأيديولوجيتها وانتهاء بصفاتها الجسدية، وهذا سر مرونة شخصياته وقدرتها الفائقة على التحرك والتفاعل مع الحياة والكون من حولها.
لقد كان محفوظ قامة وقيمة، وحالة خاصة فى الأدب العربى يندر أن تتكرر، ولابد أن يحظى أدبه بالتناول اللائق به وبمكانته العالمية، لأنه لا يدرك جله ما لم يقرأ كله، وهناك جوانب عدة من جوانب إبداعه لا تزال تحتاج إلى دراسات متعمقة، منها جانب الفيلسوف والسياسى والمؤرخ والمصلح الاجتماعى، فضلًا عن طريقته فى بناء شخصياته ومدى نجاحه أو قصوره فى وضع ملامحها، والجانب التشكيلى فى أعماله، حيث قدم رؤية تشكيلية للحارة المصرية التى هى بمثابة الحاضنة فى رواياته وقصصه، رؤية تحمل ألوان الطيف فى تنوعها وتباينها، مما يسهل على دارسيه رصد مختلف ملامحه، وتشكيل صورة شاملة لجوانب إبداعه.