المرادى ومخطوطته كتاب «الأسرار فى نتائج الأفكار»
د. محمد عبدالحميد سلامة يكتب: من تراثنا المجهول
استفاد علماء المسلمين فى ظل الحضارة الإسلامية، مما قدَّمه الإغريق والرومان والفرس والصينيون من قواعد مبعثرة لعلم الميكانيكا، وابتكروا فيه تقنيات جديدة وأضافوا إليه من إبداعهم ممَّا جَعلهُ عِلمًا تطبيقيًا فريدًا فى غاية الأهمية، بعدما كان للتسلية والسحر، وأطلقوا عليه علم الحِيَل، ويعنى بذلك التى يتحايلون بها على الظروف الصعبة لتحقيق غرضٍ من الأغراض، بمعنى توفير الجهد الإنسانى والقوة البشرية والتوسع فى القوة الميكانيكية، والاستفادة من المجهود البسيط للحصول على جهدٍ أكبر من جهد الإنسان. وتمتع المهندسون بمكانة مرموقة فى المجتمع ولدى الخلفاء والحكام، وكان لقب مهندس يضاف إلى اسم من يمارس هذه المهنة، وكان العلماء العرب يمارسون العلوم النظرية والعملية، وكانوا مهندسين إلى جانب ما اشتهروا به من الاختصاصات النظرية، من هؤلاء العلماء المهندسين أحمد بن محمد بن خلف المرادى القرطبى الأندلسى، الذى ولد فى قرطبة فى أوائل القرن الخامس الهجرى "العاشر الميلادى"، ولا تذكر المصادر والمراجع الكثير عن حياته ونشأته سوى أنه نشأ وعاش فى الأندلس، وبدأ حياته بتعلم علوم عصره فى قرطبة، ثم ما لبث أن تخصص فى صنع الأجهزة الآلية (الميكانيكية والمائية)، وقد وفق إلى صنع آلات جديدة ومبتكرة، جمع فى حياته بين العلم والعمل والتحريض عليه، ويمثل وصفه للآلات وصف مهندس مخترع مبدع عالم بالعلوم النظرية والعلمية، ترك لنا المرادى سفره النفيس مخطوطه "كتاب الأسرار فى نتائج الأفكار" المحفوظ فى مكتبة ميديشيا لورينسياناBiblioteca Medicea laurenziana) ) برقم 142 بفلورانس, وتشير المخطوطة أن ناسخها هو إسحاق بن السيد شيخ الفلكيين, ويعود تاريخ نسخها إلى عام 1266م. والجدير بالذكر أن المخطوطة بها عدة أخطاء نحوية، ولغوية، وتبديل فى الأشكال؛ حيث رُسمت بعض الأشكال مكان أخرى. هذا بالإضافة إلى خلوها من علامات الترقيم إلا فى القليل النادر، مما يرجح أنها نسخت فى غياب مؤلفها الأصلى المرادى، أو أنه لم يراجعها بعد نسخها. إن أول دراسة تحليلية لهذا المخطوط النفيس أجريت من قبل دونالد – ر- هيل Donald .R. Hill فى كتابه "الساعات المائية العربية Arabic Water-Clocks"، وفى عام 2008م أجرت الشركة الإيطالية (معهد الدراسات الإيطالى) "Leonardo 3على أيدى ماريو تاداى (MarioTaddei)،إدواردو زانون (Edoardo Zanon)، ماسيميليانو ليزا (Massimiliano Lisa) - وبالتعاون مع مجموعة من الباحثين فى تاريخ العلوم والتكنولوجيا، وقد واجهت مشاكل عديدة فريق العمل فى تعاملهم مع المخطوطة – كما جاء فى مقدمات الكتاب – منها: رداءة الأوراق خاصة حوافها العلوية، والرطوبة التى أتلفت جزءًا كبيرًا من النص والرسومات؛ لذلك قام الفريق بسد النقص بكلمات مناسبة تبعًا لمنهج محدد فى التأويل والتخمين لا يسلم – هذا المنهج - من احتمالات الخطأ وتعدد التأويلات. يضاف إلى ذلك أن المخطوطة نسخة من الأصل، وأن ناسخها لم يكن على دراية كافية بالجوانب التقنية لمحتويات المخطوطة، واقتصرت مهمته على نسخ النص ورسم الأشكال. وقد تغلب فريق العمل على هذه المشكلات بفضل التكنولوجيا الحديثة من خلال التمثيل ثلاثى الأبعاد بواسطة الحاسوب، وبذلك استطاع الفريق معرفة ما هو ممكن عمليًا، وقام بتنفيذ بعض الأشكال إلكترونيًا فى صورة مجسمات، ويحتوى المخطوط على شرح (31) نوعًا من الآلات الميكانيكية وساعة شمسية متطورة جدًا. وأهمية كتاب الأسرار فى نتائج الأفكار تكمن فى رسوماته وأشكاله الهندسية معقدة التركيب، والتى لم يتم تفسيرها أو شرحها من قبل، وتنقسم آلات الكتاب إلى: الساعات المائية، والصناديق أو المسارح الميكانيكية، والآلات العسكرية، والآبار السحرية، والمزاول أو الساعات الشمسية. لذلك نجد الكتاب يحمل وصفًا لأكثر من ثلاثين شكلاً أو اختراعًا هندسيًا، منها: قصة الحب والحيات الخبيثة، وفارسان ورجلان، والأعمى والكلب، كبشان ورجل، والمعركة، وساعة بأربعة وعشرين بابًا وأسدين، وساعة شمسية بطاقة المياه، وساعة المرايا، وساعة بفتاة ورجل يحمل أسطرلابًا، وساعة الحصوات، والعنقاء الميكانيكية، والبرج الميكانيكى، وهادم الحصون، ورقصة الأضواء الليلية... إلخ.
وهكذا فالإشادة بمخترعات أحمد بن خلف المرادى فى علم الحيل "الميكانيك" ليست نوعًا من البحث عن حضور علمى فى زمان بات فيه العرب مستهلكين لتقنيات العصر ومخترعاته، فما نتحدث عنه إنجاز موثق، لا يعنى الحديث عنه تغنيًا بأمجاد طواها التاريخ، ولا تعويضًا عن شعور بالتقصير، وإنما هو معرفة لمرحلة مهمة من مراحل تأسيس العلم، أسهم فيها العرب والمسلمون إسهامًا ضخمًا، ثم ضعف حضورهم العملى، ولكن المهم فى تأمل هذا التراث العلمى العظيم هو استعادة الثقة بالعقل العربى والإسلامى، وقدرته على الاكتشاف والاختراع، ورد المقولات التى تزعم أن الفكر العربى أو الإسلامى، كان فكرًا غيبيًا مذعنًا ومستسلمًا لا يسأل ولا يحاور ولا يكتشف.
إنَّ أمة بهذا التراث المجيد لجديرة بأن تتخطى الحواجز والعقبات، وأن تتبوأ – بسرعة ولهفة – موقعًا متميزًا فى ركب الحضارة على هذا الكوكب الذى انطلقت منه مركباتٌ وأجرام إلى الكواكب الأخرى، فهل آن لمن أبدعوا فى علوم الهندسة والهيئة طيلة قرون ثمانية أن يلحقوا بعصر الفضاء؟!.