أدب رحلات:
سيوة.. الواحة المنسية
«اللغز» هو الوصف الذى اختاره د. حاتم الطويل للواحة فى مقدمة كتابه "سيوة حدوته عمران"، الصادر عن الجهاز القومى للتنسيق الحضارى بوزاره الثقافة المصرية، يقول: "هى لغز التاريخ... لغز الحضارات... لغز اللغة، كل ما فيها يمثل لغزًا كبيرًا تراكمت من خلاله أحداث وحقائق أتت بهذه المنظومة الرائعة للبيئة العمرانية، فى تماهيها مع البيئة الطبيعية بكل خصائصها، إضافة إلى الإنسان صانع تلك الحضارة العظيمة".
اسكتشافها كان هدفى فى رحلتى الطويلة فى دروب الصحراء الغربية، وجدتها واحة قابعة ومسكونة بعبقرية الموقع والمكان والتاريخ، تقع جنوب غرب محافظة مطروح على بعد 820 كيلومترًا من القاهرة بالقرب من الحدود الليبية، وهى الأبعد بين الواحات الأخرى، البحرية والفرافرة والداخلة والخارجة، يحدها إلى الشمال الإقليم الممتد من مطروح حتى هضبة مرمريكا جنوب السلوم، ومن الشرق منخفض القطارة، ومن الغرب واحة جغبوب الليبية، والتى يقع جزء صغير جدًا منها داخل الخط الحدودى المصري، كما يحد سيوة إلى الجنوب والجنوب الغربى بحر الرمال الأعظم، وتضم مجموعة فريدة من المعالم الأثرية والجيولوجية، وينابيع الجمال من أشجار النخيل المتعانقة حول بحيرات الماء العذبة والمالحة، وكثبان رملية عملاقة وأطلال المدن الطينية المتبقية، التى تشهد على شهرتها وعلو شأنها فى العصور الإغريقية الرومانية، حتى إن البعض يؤمن بوجود قبر الإسكندر الأكبر فيها، كما تتمتع الواحة بخصوصية ثقافية وتاريخية فريدة، تكمن فى كونها البوابة الشرقية لأرض الأمازيغ أو "تمزغا"، والتى تمتد من واحة سيوة شرقًا حتى جبال الأطلس الأعلى ووادى السوس بالمغرب الأقصى غربًا، وجنوباً حتى فيافى تشاد ومالى والنيجر وموريتانيا، مرورًا بكل من ليبيا وتونس والجزائر، ولذا تعتبر سيوة مركزًا للثقافة الأمازيغية فى مصر، حيث يتحدث سكانها اللغة الأمازيغية بلهجة "تاسيويت" أو السيوية، وهى أحد اللغات المنتمية لعائلة اللغات الأفرو- آسيوية.
كان متحف البيت السيوى أول المزارات التى قمت بزيارتها، ويقع فى قلب واحة سيوة وتحديدًا فى منطقة حديقة مجلس المدينة، ويتكون من مبنى ذى طابقين، بنى باستخدام مادة الكرشيف، يضم مجموعة من السلال المستخدمة فى نقل وتخزين الغلال والفواكه والخضروات، والسجاجيد اليدوية والأوانى الفخارية، والعوامات المستخدمة لتعليم الأطفال السباحة، والمصنوعة من قرع العسل المجوف، بالإضافة إلى المكاييل الزراعية من كيلة وصاع، وثياب الزراعة والأفراح، وأدوات الفلاحة والخبيز والطهي.
وتعد مدينة شالى العامره بالتاريخ والتراث أشهر مدن سيوة وأكثرها سحرًا وما تزال تَبوح بأسرارها، فهى نِتاج الحضارة المصرية بشقيها القديمة والإسلامية، بما تمتلكه من شواهد تعكس لنا عراقة المكان وأهمية الزمان، فهى جزء من عالم الخيال، ومكان متفرد بطبيعته ونمطه العمرانى والمعمارى المتميز، حيث أنها هضبة مرتفعة تعلوها قمتان، واحدة فى أقصى الغرب والثانية فى الشرق، بنيت عليهما العديد من الدور، وتتميز المدينة بالممرات والدروب شديدة الضيق حتى لا يتمكن الغزاة من اقتحامها.. ومن أشهر جبالها ذات الطابع العجيب والمعمارى والجغرافى جبل الدكرور أو "التكرور"، ويقع على بعد نحو 5 كيلو مترات جنوب الواحة، ويتميز بجوه الصحى وتتوفر فيه المياه العذبة، أتوقف هنا لأقول إنها ليست جبالًا بالمعنى التعريفي، وإنما هى فى الحقيقة تلال صخرية مرتفعة قليلًا عنما حولها من سائر مناطق الواحة، وقد ارتبط ببعض الممارسات الشعبية الطبية، ذات الطابع الاعتقادى الروحي، على نحو ما نجده فى احتفالية السياحة ذات الطبيعة الصوفية والعلاجية أيضًا.
وتحفل سيوه بالعديد من الأكلات التراثية، فأهل الواحة لهم نظام غذائى يعتمد على الزيتون والبلح، ليس فقط على مشتقاتهما، ولكن أيضًا بمزجهما معًا، حيث تشتهر بين أهالى الواحة أكلة لا توجد فى المطاعم عادة، وهى عصيدة الزيتون بالبلح، أو ما يعرف باللغة السيوية باسم "تاجلا أنتيني"، وهى وجبة إفطار مثالية تفقد المرء الشعور بالجوع والعطش لفترات طويلة فى أيام الصيف الحارة، كما تشعر الإنسان بالدفء وتمده بالطاقة فى أيام الشتاء الباردة، كما تشتهر الواحة بالتخصص الفريد فى أنواع المربى، وتنتج باستخدام الزيتون والكركديه والباذنجان والخيار، وبالخبز المجردج الذى يعد من مظاهر احتفال عيد الصلح، كما تشتهر سيوة بعصير يستخرج من قلب النخيل، هو اللاقبى أو اللاقمي، ويكون عادة هدية الزوج لزوجته قبل الزفاف، لأن استخراجه يستلزم التضحية بنخلة كاملة، كنوع من تعظيم قيمة الهدية للزوجة، ويحل عصير اللاقبى محل قمر الدين لدى أهل الواحة على مائدة إفطار رمضان.
والحديث عن طقوس الزواج وما يتعلق بها من مأكولات، يقودنا إلى عشبة طبيعية خضراء تنمو فى سيوة، وتعرف باسم "المخمخ" أو "الرجلة" تطبخ مع اللحم فى طواجن يتناولها العريس يوم الزفاف، وشاع بين الأجيال الأقدم استخدام تلك العشبة فى علاج أمراض الجهاز الهضمي، كما تشتهر سيوة بطبق "أشنجوط" وهو رقاق بداخله بطة أو دجاجة، كما أن هذا الرقاق السيوى يسمى "إرقاق" بالسيوية.
جمال الواحة ومواصفاتها العلاجية جذب السياحة الخارجية إليها، لكنها – للأسف – بالنسبة للمصريين "واحة منسية"!