الطفل الأفريقى بين الثقافة الأصيلة والاستلاب الثقافى
السيد شليل: نملك البديل، ولا نملك الإمكانات المادية لغياب دعم الدولة
د. أيمن دراوشة: الأدب المحلى يساعد الطفل على تعزيز هويته واستيعاب قضاياه
مصطفى الصغوسى: أطفال أفريقيا ضحايا عولمة الأدب وقولبة العقول
عباس طمبل: أمير الشعراء أحمد شوقى حفزنا على الاهتمام بأدب الأطفال
سليمة مليزى: أدب الطفل الأفريقى شحيح المحتوى والمصادر الملهمة له
خديجة مسروق: خبراء الثقافة فى أفريقيا، لا يهتمون بما يقدم للطفل من برامج
تحقيق: مصطفى على عمار
فى غياب الإمكانات والإرادة الواعية، يحيا الطفل الأفريقى تمزقًا فكريًا وثقافيًا وحضاريًا، فما يشاهده من برامج أطفال ومسلسلات، وما يطالعه من مجلات مستوردة الفكر، تختلف اختلافًا بيّنًا عما تربى عليه فى بيئته من قيم وثقافة وعادات وتقاليد، والنتيجة أن يعانى هذا الطفل تمزقًا حادًا فى الهوية، بين ما تبثه هذه البرامج والمجلات المستوردة فى فكره، وما يحياه فى واقعه المعاشى بوطنه، وقد يسقط فى فخ الاستلاب الثقافى، أو يصير مسخًا ضائعًا لا تُعرف له هوية.
"سماء عربية" حملت ملف ثقافة الطفل الأفريقى إلى عدد من كُتًاب أدب الأطفال والمثقفين، بحثًا عن حل لهذه المعضلة التى يحياها الطفل الأفريقى، باقتراح الوسائل التى تنقذه من فخ الاستلاب الثقافى، وتحفظ له هويته.. وكانت هذه إجاباتهم.
بحسرة استهل كاتب قصص الأطفال وعضو شعبة أدب الطفل اتحاد كتاب مصر السيد شليل حديثه معنا قائلًا: للأسف الشديد نجح الغرب، فى طمس هويتنا العربية وفرض علينا ثقافته الخاصة التى وضعت لأطفال يختلفون عن أطفالنا فى الهوية والقيم، من خلال أفلامه الكرتونية الساذجة، التى تبثها بعض القنوات العربية، وحظيت بمتابعة الكبار والصغار، وأصبحت مادة للسخرية والضحك، على مكائد جيرى الفأر، ومناوشاته مع جاره توم القط.
يحدث هذا برغم أننا نملك البديل، فهناك النماذج التاريخية المشرفة، والكوادر الدينية والكوميدية، مثل بقلظ وماما نجوى، وبوجى وطمطم وبكار، وعمو فؤاد" للعبقرى فؤاد المهندس، الذى كان يبث مجموعة من القيم والمبادئ و"فطوطة"، للراحل سمير غانم، وبسنت ودياسطى ذلك القروى البسيط الذى يحلم بكل شىء دون العمل لتحقيق ذلك والمفتش كرومبو وأحداثه البوليسية، وسوبر هنيدى والقبطان عزوز وسلاحف النينجا والمغامرون الخمسة وظاظا وجرجير، إضافة إلى تجارب مؤسسة الأزهر الشريف،عبر عدة أفلام، منها "نور فى قرية الطيبين" و"نور وبوابة التاريخ" و"نور والكتاب العجيب".. وهذا العام "نور ورسالة النور".
المميز فى هذه التجربة (نور ورسالة النور) أن رسالتها واضحة منذ البداية، النور مفردة متعددة الدلالة والتأويل، نور العقل، ونور الدرب، ونور الشخصية الأساسية، ونور القلوب، ونور تصحيح الأخطاء، ونور العلم، ونور العقائد.
وقلة هذه الأعمال القيمة وعدم استمرارها، يعود لارتفاع تكلفتها وغياب الراعى لها، والمنوط بذلك الدولة المصرية، والنتيجة أن الطفل العربى ما يزال تحت تأثير المطرقة والسندان، يهرب من رداءة وسذاجة المتاح، ليبحث عن بغيته فى العالم التقنى الغربى مستسيغًا السم، على أمل العثور على محتوى مرئى ومقروء جيد، يحترم عقله وقدراته ويثير خياله.
وحول سمات أدب الطفل فى أفريقيا يقول الناقد الأردنى د.أيمن دراوشة: يتميز بتنوعه الغنى الذى يعكس ثقافات القارة وتاريخها العريق، ومن أهم تلك المميزات: الرواية الشفوية، وهو بذلك يشبه التراث العربى من حيث الموضوع والمغزى التربوى والقيمى، الذى يمثله ما كانت تحكيه الجدات لأحفادها أو الأمهات لأولادها، من حكايات الأساطير والسير الشعبية ونقلها شفويًا للطفل.
وفضلا عن تنوع موضوعات أدب الطفل الأفريقى وغزارتها، فأنه يغرس فى الطفل قيمًا تربوية وأخلاقية كالصدق والصداقة والمحبة والتعاون والإخلاص والعدل والشجاعة، وغالبًا ما تُدمج فيه العناصر الثقافية المحلية مثل الموسيقى والرقص والغناء والملابس فى قصص الأطفال الأفريقية، ومما يميزه أيضًا كتابته بلغات مختلفة، وتعرضه لقضايا اجتماعية مهمة مثل الفقر والتمييز العنصرى والعنف، مما يساعد الطفل على استيعاب تلك القضايا، ويعزز الهوية الثقافية لديه عبر تعريفه بتراث وتاريخ بلده.
ويرى الناقد المغربى مصطفى الصغوسى أن عولمة الأدب وقولبة العقول واقع ضحيته أطفال العالم الثالث بعامة، وأطفال أفريقيا بخاصة، حيث أريد لهم أن يصبحوا نسخًا كارتونية مشوهة عن ثقافة مفترسة تلغى ما عداها، بل وتحطم الهويات والثقافات المحلية، الطفل الأفريقى اليوم لا يعرف من أبطال ثقافته ورموزها التاريخية شيئًا، فى وقت ينبهر بثقافة الآخر التى تقدم له فى أطباق شهية: يعرف باتمان وسوبرمان باعتبارهما خوارق تستحق أن نخضع وننبطح لها!
الطفل الأفريقى اليوم مستهدف ليصبح عدو ثقافته وهويته مستقبلًا وحامى نقيضه، والأدباء الأفارقة أنفسهم لم يستطيعوا تشكيل جبهة تتصدى لهذا الهدم الممنهج المحلى والهوياتى، بل هم يحيون فى حلمهم الدائم بمواسم "الهجرة إلى الشمال"، وحلم التتويج وطباعة الأعمال الأدبية هناك، ونيل الاعتراف والرضا الثقافى ما يجعلهم يتحولون إلى ما يراد لهم أن يكونوا.
وعن سمات وشكل ومحتوى أدب الأطفال وإشكالياته المشتركة بأفريقيا، يحدثنا الكاتب السودانى عباس طمبل متذكرًا طفولته فى السودان، قائلا: حينما كنا صغارًا فى حقبة تزامنتْ مع وجود ألعاب الفيديو، و"البلى ستيشن"، وقبل حقبة صغرنا كانت ألعاب الفيديو المُسلية هى "الآتارى"، وغيرها من الألعاب المسلية، مع ذلك كانت العديد من المجلات الصادرة المستهدفة الأطفال، كأدب موجه لفئات عمرية محددة بحسب نوعية المادة الأدبية المقدمة، لأى عمر يختارها بمقصد تأليفى مؤلف المحتوى.
يضيف أدب الأطفال كمصطلح لم يعرف له إلى الآن شكل واضح، وأذكر أنه من المحتويات الأدبية المقدمة لنا فى فترة صغرنا مجلة "الصبيان"، الصادرة عن بخت الرضا منذ أربعينيات القرن الماضى، وأخرى معنونة بـ"شليل"، لكنها حديثة بعض الشئ، كلتاهما تستهدفا الأطفال ونمط تفكيرهم.
فشخصية "عمك تنقو" فى مجلة "الصبيان" ما تزال إلى الآن عالقة بذهنى، كسمة من سمات أدب الأطفال، وقرأتُ كذلك مجلة "ميكى" المصرية، ومجلة "سمير" الصادرة عن دار الهلال، وأسرنى فى تلك الفترة العمرية الرسومات بألوان زهية، ولغة مبسطة، مدعمة ببعض العبارات المتناسبة مع عقليتى فى تلك الفترة كفئة عمرية ذات تفكير مبسط، وقد ساهمت فى تشكيل جزء من وعى، وبناء شخصيتى كطفل باحث عمن يساعده فى إيجاد مخرجات حوار لبعض الأسئلة، وعلى التفكير الإيجابى المحفز لعقلية الطفل ذات التفكير المبسط فى الحياة، كسمة من سمات أدب الأطفال.
وأظن أن ألعاب الحواسب، والهواتف الذكية اليوم، ساهمت بشكل أو بآخر فى استلاب عقول الصبية، والكبار، وفى توجيه أمزجتهم للحدة، والميل للعنف اللفظى، والعنف الجسدى، عبر من المواد المقدمة للأطفال، والكبار كرسالة أدبية ساهمت فى تدهور إفهام الناس، وضعف لغة الحوار، وإيجاد رؤوس مواضيع، وعدم خلق لغة حوار جيدة للنأى عن القيل والقال، وكثر السؤال.
لقد حفز أمير الشعراء "أحمد شوقى"، الناس للاهتمام بأدب الأطفال فى مقدمة ديوانه "الشوقيات"، ودعا لقيام أدب طفل مقرونًا بالحكايات، والقصص الشعرية المتوافقة مع وعى كل فئة عمرية كمحفز للتفكير الإيجابى، وإعمال عقله كطفل.
وتؤكد الأديبة والصحفية سليمة ملّيزى وإحدى رموز أدب الطفل بالجزائر فى حديثها عن أدب الطفل وتشكيل الهوية الثقافية فى القارة الأفريقية أن أدب الطفل الأفريقى يعد شحيحًا جدًّا من حيث المحتوى والمصادر الملهمة له، إذ يقتصر اهتمام الطفل الأفريقى على البحث عن الأمن والسلام ولقمة العيش التى تسد جوعه، فكيف له وفى هذه الظروف القاهرة أن يُفكر فى تحسين وتطوير مستوى تعليمه مثلًا، وهو أصلًا محروم من التعليم، بل ومن أبسط حقوقه الشرعية.
لكن إذا تحدّثنا عن أطفال شمال القارة، والذين هم أكثر حظًا من جنوبها نجدهم، وبفعل الحضارة الإسلامية والعربية المتأصلة والمتجذرة، أغنياء بمحتوى التراث الثقافى اللامادى، من حكايات وأشعار وألغاز وقصص الشعبية وحكم، تتوارث من جيل إلى جيل، إلا أن الثقافة الغربية هيمنت على الطفل العربى خاصة، فالغرب استطاع أن يشخص قصصه الخرافية إلى أفلام كرتونية ورسوم متحركة تعرض مفهومها الغربى بأى صورة شاءت؛ ولكن نجدها فى بعض الأحيان وجدت من القصص العربية مصدرًا لها، فعلى سبيل المثال استوحت العديد من الأفلام الأجنبية موضوعاتها من قصص ألف ليلة وليلة ومنها: قصة علاء الدين والمصباح السحرى، والتى تربّعت على عرش كأحسن فيلم كرتون سنة 1994م و"على بابا والأربعون حرامى"، وتجسدت فى فيلم أمريكى وفيلم كرتونى وفيلم كوميدى، وحققت نجاحا باهرا سنة 1994م.
وتضيف أن أدب الطفل فى المغرب العربى: الجزائر وتونس والمغرب وليبيا له نفس السمات، وتجلى ذلك فى البحوث التى درست السمات العامة والشكلية لأدب الطفل فى الجزائر كنموذج من دول الشمال الأفريقى.
وتشير إلى قلة كتابات الأدباء الجزائريين فى مجال أدب الطفل، والشىء نفسه يقال عن صحف أو مجلات أو حوليات ودوريات تخص النشء, فعلى سبيل المثال القليل نجد مجلة الأولى فى أدب الطفل فى الجزائر رياض للأطفال والتى تأسست سنة 1984م عن مجلة الوحدة بالإضافة إلى مجلات "الشاطر" و"سامى" و"اقرأ"، وفى السنوات الأخيرة ظهرت مجلة "عصافير الأطفال" ومجلة "عمو يزيد" وغيرها من المجلات التى لا تصمد كثيرًا وتندثر، بسبب تكاليف الطباعة والتلوين، والبحوث الأخيرة تشير أن المجلات والصحف الموجهة للأطفال فى القارة الأفريقية بعامة، ودول المغرب العربى بخاصة، ما تزال تفتقر للمساندة والدعم الحكومى.
وعن تأثر أدب الطفل الأفريقى بالغزو الفكرى الغربى وكيفية التصدى له، تقول: لا بدّ من تعزيزالاهتمام بالتعليم وتطويره؛ فمجال التعليم هو اللّبنة الأولى التى تكوّن الطفل وركيزة بناء مجتمع حضارى مؤطر، والرجوع إلى الاهتمام بمصادر تراثنا العريق المهمل كثيرًا من جانب هذه الفئة العمرية خاصة- كما ذكرت سابقًا- فلابد من العمل على توصيل تراثنا الشعبى للطفل بطرق محببة له، والاستعانة بالمجال التكنولوجى فى ذلك وسيلة جدّ فعالة يجب على المعنيين استخدامها والعمل عليها، فمثلًا تسجيل القصص الشعبية من كتاب "ألف ليلة وليلة" على شبكات التواصل الاجتماعى، بأصوات جميلة تُغرى الطفل، وتجعله يميل إلى سماعها والاستفادة منها، وبهذه الطريقة يمكننا استرجاع هويتنا العربية والإسلامية والأفريقية، وغرسها فى أطفالنا دون أى خطر أو تهديد.
وترى الكاتبة الجزائرية خديجة مسروق أن الطفل فى بداية إدراكه، وتشكيل وعيه يكون على استعداد لتعلم أشياء جديدة، ويتأثر بالمحيط الذى حوله بشكل كبير، والتليفزيون من أكثر الوسائل تأثيرًا على شخصية الطفل، فهو يقضى وقتًا مع العالم المرئى ربما أكثر ممّا يقضيه مع الأسرة.
وإذا كان العالم المتقدم يهتم اهتمامًا بالغًا بالأطفال، ويراعى الجانب النفسى والاجتماعى لهم، ويحرص على تنشئتهم نشأة سليمة، بتقديم برامج تلفزيونية تتلاءم مع أعمارهم، فإن الطفل الأفريقى يفتقد إلى هذا الاهتمام وإلى هذا الحرص على سلامته على الأقل نفسيًا، وبرغم أن الجانب الثقافى أكثر تأثيرًا على شخصية الفرد، إلا أن خبراء الثقافة فى الدول الأفريقية، لا يلقون بالًا حول ما يقدم للطفل من برامج تناسب سنّهم بيئاتهم التى يعيشون فيها، حيث تقوم وسائل الإعلام وخاصة التلفزيون بتقديم المسلسلات الكرتونية المستوردة أو المترجمة دون مراعاة لمضمونها.
فهى برامج أنتجت فى بيئة مختلفة، تحمل قيمًا وثقافات مغايرة لقيم الطفل الأفريقى، فيؤثر ذلك على شخصيته وسلوكياته هويته الثقافية، بما تزرعه فيه من عادات وقيم دخيلة عن مجتمعه، وبالتالى يصير الطفل ضحية لهذه البرامج المستوردة، وما دامت هذه الدول عاجزة على إنتاج مادة إعلامية من رحم البيئة الأفريقية، تتلاءم مدارك الطفل وتؤثر عليه تأثيرًا إيجابيًا، فالحل هو تمحيص ومراقبة المسلسلات الكرتونية المستوردة بشكل دقيق، وأخذ هذه الفئة الحساسة بعين الاعتبار، لأنهم عماد الأمة ومستقبلها الزاهر.