الشاعر الذى كان جسرًا للإبداع بين ليبيا ومصر
احتفت القاهرة منذ يومين بالمنجز الشعرى للشاعر الليبى محمد الفقى صالح، فى أثناء حفل تأبين أقيم فى القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة يوم الاثنين الماضى، وهو الشاعر الذى رفرف بأجنحة الشعر فى ربوعها وانطلق يحلق مع عنادل الشعر من أبناء جيله على ضفاف نيلها، وأفلح فى أن يكون خلال عمره الذى استمر أربعة وستين عامًا جسرًا ثقافيًا بين بلاده ليبيا وبين مصر، ورحل فى أثناء ممارسته لعمله سفيرًا لبلاده فى العاصمة الإسبانية إثر معاناة مع المرض استمرت بضعة أشهر.
يقول شاعر فرنسى شهير هو غلاستون باشلار: «عندما يموت الشاعر، يفقد العالم جزءًا من نبضه وإحساسه»، فما بالك أن الشاعر الذى رحل هذه المرة هو أمل بلاده فى فجر يبشر به الشعر، وقطرات نور يحتلبها من ضرع السحب السوداء التى تغطى سماء البلاد وتحجب عنه الضياء، يسقى بها شجيرات الأمل التى تيبست فى النفوس والقلوب، بعد أن تعاظمت الخطوب وتكاثرت غربان البؤس والشؤم، تنشر نعيق الدمار والخراب، فلا أمل إلا فى عنادل الشعر تخترق كثافة النعيق وتبشر بيوم الانعتاق، وكان أجمل هذه العنادل أكثرها تغريدًا، وتحفيزًا للأمل هو هذا الشاعر المتفرد الجميل الجليل بشعره الذى جاء يؤسس لذائقة جديدة، ويقدم مفردة جديدة ويبشر بنهار جديد تسطع شمسه على هذه الديار التى إليها ينتمى، ومنها انبثق وأعطاها حبه وولاءه وكرس لها نبضات قلبه وذوب ملكاته ومواهبه.
وكان قد التحق فى مطلع السبعينيات بجامعة القاهرة قسم العلوم السياسية حيث نال شهادته الجامعية فى منتصف ذلك العقد وعاد لينضم إلى العمل الخارجى، إلا أنه قبل هذا الانضمام كان قد صار جزءًا من حركة شعرية جديدة فى أثناء وجوده فى الجامعة وباشر نشر أشعاره ذات الحساسية الجديدة، مع أبناء جيله فى مصر من شعراء السبعينيات، وقد كان الوسط الأدبى فى ليبيا حفيًا بشعره الذى مثل أملًا للشعر الليبى كان فيها الإبداع الأدبى والفنى يعانى من عسف النظرة الضيقة وسوء التأويل والتفسير تحت سياسة ضيقة الأفق والصدر، ولم تمض غير سنوات قليلة على بداية تألقه واعتراف المجتمع الأدبى بقيمة شعره، حتى امتدت يد الرعب والقهر والإرهاب لخنق صوته، والقبض عليه فى أواخر السبعينيات مع دفعة من أبناء جيله عرفت باسم مجموعة الأسبوع الثقافى، وحكم عليه ضمن غيره من المدانين بالتآمر على النظام بالسجن المؤبد، وظل قابعًا فى سجون النظام عشرة أعوام وتمكن بعد خروجه من إصدار ديوانيه الشهيرين «خطوط داخلية فى لوحة الطلوع» الصادر عن دار الجماهيرية فى التسعينيات، ثم حنو الضمة سمو الكسرة الذى كان نشرًا خاصًا كما أصدر كتبًا نثرية تحتوى على رؤاه وأفكاره الأدبية وأطروحات الحداثة فى الشعر وألوان الأدب الأخرى.
كنت قد سمعت بإصابته بالمرض اللعين، إلا أنه كان يطمئننى حين الاتصال به، بأن جلسات العلاج الكيماوى جاءت بنتائج تؤدى إن شاء الله إلى قهر المرض، ولكنه مرض للأسف الشديد لا أمان له، لأنه بعد أشهر من هذا العلاج جاء الخبر الفاجع المؤلم بأن شاعر ليبيا الجميل قد أسلم الروح وغادر عالم الفناء إلى عالم الخلود والبقاء، وسيذكره محبوه وسيذكره قراء شعره وسيذكره هذا الوطن الذى غنى له وعبر عن أفراحه وأتراحه بمثل ما أشعل شمعة الأمل فى عتمة أيامه، تقبله الله برحمته وأكرم وفادته، وأجزل له العطاء فى دار البقاء بقدر ما أعطى وقدم فى هذه الدار.