عندما عبرت الحدود بلا متاعب
جميعنا نهئ أنفسنا لحظة عبور المناطق الحدودية الأرضية، خاصة فى بلداننا التى تنتمى إلى العالم الثالث، لأن نلتقى بمختلف أنواع المضايقات وحرق الأعصاب، وأقول الحدود الارضية التى يتضاعف فيها العذاب عن الجوية أو البحرية، وفى بلدان ذات طبيعة صحراوية مثل الحدود التى تربط ليبيا بجيرانها شرقا وغربا وجنوبا، حيث درجة الحرارة صيفا تصل إلى دراجات مخيفة بائسة، وتصل شتاء إلى درجات عالية بردا، مع احتمال أن تتحرك الزوابع والعواصف الرملية، فتضع الجميع، مسافرين وموظفين فى هذه الأماكن فى أعلى حالات التوتر والضيق، وكانت منطقة العبور بين طرابلس وتونس هى التى يكثر استخدامى لها أكثر من غيرها، خاصة فى تلك الأعوام التى واجهت فيها ليبيا حظرا جويا يمنع المواطنين من استخدام الطائرة للسفر خارج البلاد، ونتيجة لقرب هذا المعبر الحدودى من العاصمة طرابلس، فهو دائما الأكثر زحاما، وطوابيره هى الأكثر طولا، وضباط وجنود الجمرك والمهاجرة كما تسمى، أكثر حدة وعصبية، بسبب الضغط الكبير عليهم.
وكنت فى إحدى هذه الرحلات، عبر الحدود الليبية التونسية، قد تجاوزت بشق الأنفس إجراءات الجانب الليبى، بكل ما لاقيته فيها من عسف وبؤس، عارفا أن عسفا وبؤسا أكثر حدة ينتظرنى على الجانب الآخر، ولذلك فقد وقفت بخشوع ودعة، أما الضابط التونسى الذى يقتضى أن أقف أمامه فى أولى خطوات التعامل، وكان غارقا وسط سحابة من الذباب، فى يده حزمة من سعف النخيل ينشه بها دون فائدة، رغم حركة يده العصبية المكوكية أمام وجهه، وانعكست حالته على أسلوب المعاملة التى باشر يعاملنى بها، والأسئلة التى لا يقتضيها الموقف ولا الحاجة التى يسألنى إياها، وتذكرت أن فى حقيبة اليد التى تضم أوراقى، صحيفة تحمل قرارا من رئيس الجمهورية التونسية السيد زين الدين بن على، يقضى بتعيينى عضوا فى فى لجنة الجائزة التى أسماها جائزة المغرب العربى، وتقدم باسمه لإحدى الشخصيات المغربية البارزة، ولكى أضع حدا لرزالات الضابط وتخرصاته، أخرجت الصحيفة، وأشرت إلى الصفحة التى نشر بها القرار مرفقا بصورة لى، وبقى الرجل للحظة مذهولا ينقل بصره بين الصورة وبينى وبدا عندما تأكد من حقيقة أننى الشخص المقصود، كأن مسا كهربائيا أصابه، تحول ذلك الرجل الذى يجلس مشمخرا، فى صورة آلة للذباب، إلى كائن يرتجف ويرتعش وينهض مذعورا من مكتبه، ويتجه إلى الشنطة التى كانت معى، يختطفها منى وأنا أقاوم لأننى لا أريد له مهانة أن يحملها عنى، ولكنه تشبث بإصرار بها، طالبا منى أن أقوده إلى السيارة التى تقلنى مع بعض الأصدقاء، ليقوم بتسهيل مرورها وإجراءاتها خارج طابور السيارات ووضع سمة الدخول على جوازات سفر ركابها متقدما بنا عن كل الطوابير، وهو يلهج بالثناء والشكر، مرددا بشكل آلى: «أنت شرفتنا وآنستنا باعتبارك ضيف بلادنا وضيف رئيسنا ولا بد أن نخدمك بأعيننا».
فوجئ الصديق الذى يقود السيارة بالضابط الذى جاء باسم الرئيس يستقبلنا، وبسرعة أحضر بقية الركاب من الطوابير الطويلة التى كانوا يقفون فى آخرها، فأنقذهم من مشقة الانتظار والوقوف تحت شمس الصحراء، لينجزها الضابك الذى يرافنى فى بضع دقائق، ولكى نجد أنفسنا نشق طريقنا بعيدا عن مخافر الحدود، وقد تقدمنا عن طوابير السيارات التى جاءت قبلنا وظلت تواصل انتظارها، تحت الشمس بعد أن غادرنا الموقع .
مجرد تذكير ببعض فوائد الطغاة.