فى ذكرى رحيل يوسف السباعى
بين الفكر والأسلوب واللغة
بهدوء مر يوم 18 فبراير الحالى الذكرى 39 لرحيل فارس السيف والقلم الأديب يوسف السباعى دون أن تشعر بها مؤسساتنا الثقافية والتى يعود الفضل فى تأسيسها إلى الراحل الكريم.
وأعتقد أن المترجم والأديب محمد السباعى الذى ترجم مسرحيات شكسبير ورباعيات الخيام كان يريد لولده مهنة أخرى غير مهنة الأدب، بسبب المصائب التى كانت تتعرض لها المهنة على أيامه، وهى مصائب مازال يتعرض لها الأدب الجاد الملتزم فى بلادنا حتى أيامنا هذه.
وعليه فقد حاول يوسف السباعى خلال فترات تألقه ونجاحه أن يسترد للأدباء قيمتهم المهدرة فى المجتمع، فغنى عن البيان أن الضياع وفقدان الذات فى الحياة الأدبية من أسباب هبوط الأدب وانحداره، ولعل ذلك ما دفع يوسف السباعى إلى محاولة إعادة الأدب لمكانته الحقيقية كمنارة للوعى والاستنارة.
الشعراء والأدباء الضائعون المهجورون، حاول يوسف السباعى أن يعيدهم إلى مكانهم الطبيعى فى طريق الإبداع، الأدباء الذين تاهوا وفقدوا طريقهم، حاول يوسف السباعى أن يساعدهم ويمد لهم يد العون ويردهم إلى طريق الحياة، وأيضًا الشباب الذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل قدم لهم يده، وقال لهم إننى معكم إلى الأمام.
ولكن، وبكل أسف فقد عض البعض اليد التى امتدت إليه، وانقلب على يوسف السباعى شاتمًا مهاجمًا، ومازال نفر منهم يفعل ذلك إلى يومنا هذا بعيدًا عن الموضوعية فى النقد الأدبى، أو الأمانة فى التأريخ للشخوص والأحداث.
ولكن ليس هذا موضوعنا، فكم فى حياتنا الأدبية من المضحكات المبكيات، وكم فيها من العجائب والمستغربات.
أقول لكم: إن قيمة يوسف السباعى فى الأدب الحديث ليست فى هذه الأعمال الإنسانية والخيرية التى يعرفها أهل الفكر والأدب، ولكنها فى أعماله ككاتب ومؤلف، ولن يتأتى تحديد قيمة الإبداع إلا بالدرس والتمحيص وفق منهج علمى سليم.
لقد بدأ يوسف السباعى حياته الأدبية هاويًا، ولم يكن محترفًا للأدب، ثم انطلق بسرعة مكوك الفضاء عندما ألف روايته الأولى (أرض النفاق)، فالتفتت إليه الأنظار، بسبب فكرته التى قامت على تصوير المجتمع المصرى خلال فترة الخمسينيات من القرن العشرين، ولكنه بعد ذلك ألف عدة روايات ترتبط بالحياة الاجتماعية والسياسية فى مصر، كتب لها المجد السينمائى، ولم يكتب لها المجد الأدبى، لأنه خلال رحلته الأدبية لم يتعلم الدرس الذى لقنه له والده الأديب المترجم محمد السباعى، وهو أن الأدب فكر وفن ولغة وأسلوب، وهكذا قال له طه حسين.. يوسف السباعى مؤلف الروايات كان له فكر، ولكنه لم يملك الأسلوب، ولم يملك اللغة، ثم امتلك شاشة السينما بلا لغة!
ولست أدرى ماذا سيحدث لأدب يوسف السباعى بعد جيل واحد من الجيل الذى يعيش الآن؟ هل يبقى أم يضيع؟
الجواب على هذا السؤال ليس ملك لهذا الجيل، ولكنه ملك لأجيال قادمة، لقد قال المازنى أنه يكتب لجيله، ولا يزعم أو يدعى أنه يكتب لأجيال قادمة، وكل جيل يكتب بلغته وأسلوبه وطريقته، وليس من المقبول أن يكتب أى جيل للجيل القادم، أو يجيء من يقول إننى غير مفهوم فى هذا الجيل، وسوف تفهمنى الأجيال المقبلة!!
على كل حال ستظل قضية اللغة هى أعقد مشكلات الكتابة، لأن كل الأجيال لها أفكارها الخاصة بها، ولكنها تختلف لغاتها، أو فلنقل طرائق تعبيرها.
ويأتى السؤال: متى تصبح لنا لغة واحدة نكتب بها، كما نتحدث بها؟ هل هذه هى مشكلة الأدب العربى الحديث.. أن نجد له لغة واحدة جديدة؟ هل مات أسلوب الجاحظ، وطه حسين، والعقاد.. وغيرهم..؟ ولكن أفكارهم لم تمت، ولن تموت، والسبب فى ذلك أنهم كانوا يملكون اللغة، وكانوا يفهمون أسرارها، أى أن اللغة لا تملكهم، وهذا ما ردده د. طه حسين دائمًا.
وللحديث بقية..