كيس أبى
د. محمد محى الدين أبوبيه
صليت ركعة الوتر وتوجهت للسرير، وجدت زوجتى تغط فى نوم عميق، بعد يوم شاق تحملت فيه عبء ضيافة مَنْ أتوا لتعزيتنا فى أبى الذى وافته المنية بالأمس.
رغم توقعنا أو بالأحرى انتظارنا لهذه اللحظة، بعد أن ساءت حالته الصحية، وبات لنا الفراق أهون من العذابات التى يعانيها فى مرضه، إلاّ أن الظلمة التى تتخلل صدرك وتسرى بحنايا بدنك وتلف ربوعك، ليس لها كاشف ولا منقشع إلا بصبر من عند الله.
رأيته وقد حفّ شاربه وأطلق لحيته، ولبس ثوبا أبيضا تفوح منه رائحة عطرة كالمسك، يتجول بالشوارع حاملًا كيسًا كبيرًا.. سرت خلفه أترقب ماذا يفعل..؟
تفاجأت بأنه يميل على الأرض، ويلتقط الأوراق الملقاة والمتناثرة بجميع الأنحاء، ثم يضعها فى الكيس الذى يحمله.
تنقل من شارع لآخر وأنا أتتبعه.. حتى امتلأ الكيس عن آخره.. ثم أخرج عود ثقاب وأشعل فيما جمعه من أوراق وانتظر حتى خمدت النار، ثم ذهب وكرر فعلته بباقى الشوارع.
اقتربت منه وهممت أن أحمل الكيس عنه: عنك يا أبتى أحمل الكيس..
لم ينبس ببنت شفة ونظر إلى مبتسمًا وتركنى..
لكنى لمحت وسط كومة الأوراق وأنا أحاول جذب الكيس منه.. قصاصات جرائد تتزين بسور من القرآن وأخرى فيها أحاديث للرسول ( صلى الله عليه وسلم)..
صحوت من نومى على صوت ميكروفون المسجد والشيخ يتلو فى المذياع بشعائر صلاة الفجر قبل الآذان "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".. ففهمت واستبشرت وعزمت أن أكمل ما فعل أبى، ومن اليوم سأحمل كيسًا مثله، وأسيح بالشوارع وأدخل فى زمرة "وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".