ضفائر روح ونصوص تصافح الروح
كيف يستطيع المبدع أن يصنع جسرًا من المودة بينه وبين المتلقى من خلال نصه؟ إن الألفة الإنسانية هى أهم ما يميز النص المؤتلف، الذى يتواءم مع روح المتلقى، وهذا هو ما فعلته ديمة محمود خلال نصوص ديوانها «ضفائر روح» الصادر مؤخرًا عن دار الأدهم بالقاهرة.
استطاعت ديمة محمود أن تؤنس نصها بحرفية فنان بارع يدرك قيمة الكلمة وأثرها فى البناء والتغيير، وخلق عرى وثيقة بين المبدع والإنسان الذى يرسم همومه ومعاناته فى نصوصه.
«ضفائر روح» عنوان مراوغ دال على العلاقة المتشابكة بين الإنسان وروحه، تلك العلاقة التى تشبه الضفائر فى تشابكها وتعقيد نسيجها: أوقن بأنك لست البكماء ولا الضريرة لكن الولادات القيصرية غالبًا ما تتعثر ليخرج إلينا أطفال كالأقمار، تنسينا وجوههم الدرية كل عذابات الوحام، وكل الندوب وآثار الخياطة وبقع الآلام ووخزات الحقن الوريدية (ص 6) هذه اللغة الحميمة القريبة من الروح هى التى تسطر بها ديمة محمود عذابات الإنسان ومعاناته وسط هذا العالم المادى الذى يمور بصراعاته وحروبه، هذا العالم الذى تحلم الشاعرة أن تراه عالمًا من الوئام: اتكور على ذاتى / علنى اقتات عشب البدايات / جنينا أصير / وانتشى بتمائم الحبل السرى / ويجذبنى مسك المشيمة / استرجع تلك الأبدية / التى تعانقت زمنا مع أمى / وتوحدى معها / فى كل المدارات والأفلاك (ص 35).
هذا الحنين للرجوع إلى الماضى بهذه اللغة التى تصافح الروح بهذا الحنو البالغ هو جوهر تجربة ديمة محمود فى هذا الديوان، لغة موحية معبرة دون فذلكة ولا ترميز أعمى، ترصد من خلالها أدق تفاصيل الحياة من حضور وغياب وألم وفرح ومعاناة وأمل: للصقيع هيبة وتفاصيل / لا يعرفها إلا البطريق وأنا / آنئذ تعترينى وحشة / ورغبة بالتنحى والانطواء / تجمح بى / فأنكمش فى زاوية بيت اللبن / بلا أدخنة / لا من قهوة ولا من تبغ / ولا من مدفأة / ولا من ذاكرة (ص 71 ) هذه الوحدة التى رصدت الشاعرة تفاصيلها بدقة متناهية هى الشعور المسيطر على أغلب قصائد الديوان بإلحاح شديد، وحدة الكائن البشرى فى عزلته التى فرضت عليه قسرًا.
واحتفاء ديمة محمود فى نصوصها باللغة، يجعل للنصوص أبعادًا دلالية منفتحة على التأويل، ويتيح امتلاك رؤية خاصة للعالم: سأشترى سبع علب للألوان / وثلاثين ريشة / وكثيرًا من أدوات الرسم / وأرسم لوحات كبيرة / للحب والحياة والأطفال و الزهور والبالونات / سأحفر على الخشب / وأشكل الطين كما أشاء (ص 75).
ولعل هذا البحث الدءوب عن صيغة مثلى للوجود هو ما يؤدى أحيانًا بالمبدع إلى التيه، وتخبط الذات أمام غرائبية العالم، فى إطار البحث عن وضعية مناسبة فى خضم متناقضات يمور بها عالمه: لن أمل الحب ولا الحياة / لن أهوى ولن أتهاوى / سارعى الإنسان فى دمى / سأغذى الطفل داخلى / سأصرخ للمراهقة فى أن تجن / لن أغلق شرفات الفرح / سأسد كل الثغور إلى طريق الموت والنار (ص 80).
ومن هنا تأتى مفردات نص الشاعرة تحمل قدرًا كبيرًا من هذا التيه، وهذه الغربة المتشعبة، فى إطار السعى للوصول إلى معنى لهذا الوجود: كالقشة التى هوت من زحل / على وجه ماء آسن / أنا هذا المساء / هشة وملبدة بالاستسلام / لا ألوى على حراك قدر فقاعة (ص 87 ) كما يسجل الصراع النفسى المطرد فى نصوص الديوان موقفًا من هذا العالم، فى خطابه الشعرى الباذخ، من أجل كينونة الإنسان فى أتون هذا الصراع: أطلق أجنحتك / وألفظ كل الظنون / وكل الرزايا / وأرتدِ معاطف النور / ووجه خطوط الماء / وألثم شفاه الأفق المنبجس / بانكسار الشعلة / فى تبر عقلك / على مرايا الحقيقة (ص 92).
ولعل ديناميكية الحركة ودراما اللغة من أهم ملامح نصوص ديمة محمود، وتتبدا فى إدارة الحوار مع الآخر / الأنا / الغائب / فهذه الحواريات توحى للمتلقى بتعدد آليات الدلالة والتأويل: بعيد قريب / تأتى او لا تأتى / سرمدى / ممتد الوميض / تبزغ كل لحظة / تدنو المسافة معك / فينطوى المجهول (ص 100).
لقد استطاعت ديمة محمود فى ديوانها كتابة ذاتها من خلال لعبة التأمل فى الاخر دون تعقيد، لذا استحقت أن نقرأها بحميمية لغتها، التى سطرت بها نصوصها بحروف من نور.