حكايات عن «محطات فى حياة امرأة»
رغم أن رواية "محطات فى حياة امرأة" للأديبة المغربية الدكتورة ثريا ليهى أقرب للسيرة الذاتية، إلا أنها لا تعنى مجرد السرد التاريخى لحياة إنسانة، بقدر ما هى رصد لحياة امرأة مغربية بربرية، تشاء ظروفها أن ينتقم الحاكم الطاغية ولى الاستعمار الفرنسى للمغرب، من رب أسرة بربرية تعيش بجبال الأطلس الكبير يتزعم المعارضة ويحارب الخونة، فأرسل إليه من دس له السم فى الطعام، فمات الاب من حينه وتبعته زوجته بعد أيام، وخلفا وراءهما طفلاً فى الحادية عشرة من عمره وطفلة فى الرابعة.
وترصد الرواية مصير هذه الطفلة – الطاهرة - التى تجتث من أصولها ووطنها لتصل إلى أسرة أندلسية من ساكنى مدينة الرباط فى ظروف فقدت كل علاقة لها بوطنها وأسرتها.
وتقف محطات الرواية عند لحظات معينة فى خط سير حياة الطفلة التى كانت تتحدث البربرية ثم نسيتها تمامًا، بعد ما تعلمت اللغة العربية فى وسطها الجديد، تبدأ من الحكاية الأولى وقد تزوجت الطاهرة من ابن عمتها "أحمد" ورزقت منه بأطفال "ثلاثة ذكور" كان قدرهم أن يموتوا بعد الولادة ويوم السبوع تحديدًا، لذا كانت مرارة الثكل تعصف بها كلما رأت النسوة تغسلن لأبنائهن.
وعبر تتبع اخبارها ترصد الرواية واقع مدينة الرباط ووصف شوارعها وأزقتها فى سنوات 1940م، وعادات وتقاليد الناس فى العيش والزواج وتكاليفه المرهقة، وتصف المجتمع الطبقى الذى يخضع لنمط التمييز بين الأحرار والعبيد، وشيوع ظاهرة خطف الأطفال وبيعهم عبيدًا فى سوق النخاسة، ووفود تجار الرقيق من جنوب الصحراء وتصديرهم لبريطانيا والولايات المتحدة، وتأثير هؤلاء فى الحياة الأسرية فى المغرب، وصور لبيوت كبيرة وطريقة الحياة عندهم، كما تعرض لكيفية العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة والأسر المختلفة، وترصد التغيير الاقتصادى وأثره على الاقتصاد الوطنى، خاصة بعد سيطرة الاستعمار الفرنسى على المغرب، وتتعرض إلى الظروف الاقتصادية للأسر والدولة نتيجة الحرب العالمية، والزج بالعدد الكبير من المغاربة للمحاربة تحت راية الدولة الفرنسية، وما نجم عنه من نقص فى المواد الغذائية، حتى لقد سميت بعض السنوات بأسماء أحداث هذه الفترة فقالوا: عام البون وهو التموين بنظام البطاقة، وعام دخول الألمان وعام ضربة الأمريكان، وغيرها من هذه المحطات التى سلطت الضوء على التقاليد والعادات على الحياة الاجتماعية، كالاحتفال بالأعراس الذى كان يستمر سبعة أيام، تأتى على كل مدخرات الاسرة وكيف سعت بعض العائلات الغنية إلى الاقتصار على يومين فقط؟ فرفعت الحرج عن الآخرين وأصبح العرس أقل تكلفة.
كما ترصد العلاقات الإنسانية والدينية بين الكفيل والمكفول، ويظهر أيضًا التغيير فى المستوى الاقتصادى والتدهور الذى أصابه، حتى باتت بعض الأسر تبيع أبناءها وبناتها، أو تتركهم أمام الأبواب الكبيرة والمساجد، كى يأخذهم من يتولى تربيتهم.
وقارئ الرواية لن يصعب عليه اكتشاف وجود المؤلفة ثريا ليهى فى الحكاية الثالثة تحت عنوان "نجمة"، الاسم المرادف لمعنى "ثريا"، وليس من قبيل المصادفة أن ترتيب "نجمة" فى الأسرة يجىء الثانى بين أربع بنات، أنجبتهن الطاهرة بعد زواجها من ابن عمتها، وهذا الترتيب يلقى بظلاله على شخصية البطلة نجمة الراوى طوال الحكايات، فهى مجتهدة منضبطة وسواسية تقوم بأعباء الدراسة ومتفوقة فيها، وأكملت دراستها حتى الدكتوراه من باريس، وحريصة على تناول الأطعمة النافعة وغير الضارة بكميات محددة أيضًا حفاظًا على صحتها، وشخصيتها تشير إلى الوسواسية لدى ثريا ليهى بعد النرجسية الذى تجلى فى إخفاء تاريخ أخواتها الثلاث طوال الحكايات، إلا من تلك الشذرات البسيطة عن أيام طفولتهن. وأمعنت المؤلفة فى ذكر تفاصيل حياة والدتها الطاهرة، منذ طفولتها وحتى زواجها وإنجابها البنات الأربع، وإن كانت تعد فى الجزء الثانى بمزيد من الحكايات عنهن وعن نفسها.
وتشير الرواية إلى نقطة مهمة تتجلى فى التمييز العنصرى، الذى كان شائعًا عند كثير من المجتمعات البربرية، وحياة العبيد وما بها من ذل وإهانة ولا مجال فيها للعيش الكريم أو حتى الزواج، واعتبار الأمة مجرد وعاء للمتعة، والرواية قبل هذا وبعده ترصد التغيرات فى المجتمع المغربى سواء على مستوى السفور والحجاب وكيف فى فترة وجيزة انتقل زى المرأة من الحايك الذى لا يظهر من المرأة أى شىء كما فى الحكاية الأولى من الرواية عندما خرجت الطاهرة للحمام، إلى تغييره بالجلباب واللثام عند ذهابها وزوجها للمأذون لكى يطلقها، وفى ختام الرواية ترتدى الجلباب العادى عند زيارة البيت الكبير الذى تربت فيه وهو بيت السيد "عبدالوهاب".