النيل فى الأدب المصرى
لم تكن الدكتورة نعمات أحمد فؤاد مجرد باحثة وأستاذة جامعية، لكنها كانت قبل هذا وبعده بنت مصر وعاشقة الوطن والنيل والأهرامات، مثقفة فاعلة فى مجتمعها، وناقدة أدبية، ولا عجب فقد كانت تلميذة العملاق عباس محمود العقاد برغم أن مسقط رأسها كان مدينة مغاغة بالمنيا، والتى هى أيضًا ويا للمصادفة مسقط رأس عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين.
وفى كتابها "النيل فى الأدب المصرى" الذى يعد أول دراسة فنية أكاديمية وحصلت بها على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة فى الخمسينيات من القرن الماضى، تكشف لنا كيف شكل النيل كمظهر من مظاهر الطبيعة الكبرى الحضارة المصرية، بل الخلق المصرى والحكم المصرى.
كيف جاء اسم النيل.. التسمية الفرعونية له.. التسمية القبطية.. النيل فى اليونانية والفينيقية والعبرية.. حقيقة اسم النيل..
وقد تناولت فى هذا الكتاب الذى نشر فى يناير 1962م وجاء فى 450 صفحة من القطع الكبير مقسمة على خمسة أقسام وعدد من الملاحق، يسبقها إهداء وصلاة ومقدمة.
تقول فى القسم الأول: «أرجح أن يكون اسم نهرنا النيل قد انحدر إلينا من التسمية الفرعونية، التى تطورت فى اللهجات القبطية حتى سارت إلى لفظة “نيالو” القبطية، وعنها أخذ اليونانيون قولهم “نايلو” التى انتهت عند العرب بكلمة نيل.. فالعرب وجدوا الاسم “النيل” حقيقة واقعة فاستعملوه، لم يضعوه ولم يأخذوه من الفعل العربى “نال ينال”، وما حاجتهم إلى الوضع والأخذ والتوليد، ما دام الاسم الشائع قد وافق فى منطوقه المعنى الموجود فى لغتهم، والذى ينطبق وصفه على النهر فى حقيقته ونواله..
ويتحدث الكتاب عن أسطورة إيزيس وأوزوريس وانعكاساتها فى الفن وظلالها فى الأديان، وأسطورة الفيضان وكيف ظن المصرى القديم أن منابع النيل أربعة تغذى النهر فى جزيرة فيلة، ولعل السر فى ذلك أن مسألة التثنية عند قدماء المصريين “مصر السفلى والعليا” وغيرها، قد جرت المصريين إلى الاعتقاد أن له منابع أربعة: “اثنان شمالًا واثنان جنوبًا”.
وقد ذكر الله لفظة "بحر" فى ثلاثة وثلاثين موضعًا منها ثلاثة مواضع قصد بها النيل وهى قوله تعالى:
“نسيا حوتهما فاتخذ سبيله فى البحر سربا” الكهف61
“واتخذ سبيله فى البحر عجبا” الكهف 63
“وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر” الكهف 79
ويؤيد هذا التفسير ما أورده البخارى فى ذهاب موسى عليه السلام فى البحر إلى الخضر، حيث كان موسى فى مصر وسبيله إلى الخضر كان النيل.
ومما جاء فى رسالة عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قوله غداة الفتح "أعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء طولها شهر وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر ورمل أعفر يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات تجرى فيه الزيادة والنقصان كجرى الشمس والقمر له أوان.."
إن النيل فى النشيد المصرى القديم مسألة حياة أو موت “فإذا تباطأ سيره اختنقت الأنفاس وتضور الناس وعزت مؤن الآلهة ولقى الملايين حتفهم”، وإذا أوفى اهتزت البلاد هزة الفرح حتى الحزين تشمله موجة السرور العام.
والنشيد المصرى القديم يؤثر النيل على البحر ويرتفع به عليه، ويدعو الناس للصلاة للإله الذى “نضر ضفاف النهر”».
وتقول الدكتورة نعمات فى الصفحة رقم 264 "ومصر فى تاريخها كله دائمة الخوف على النيل.. تخشى عليه بحبها كله، الحدثان والإنسان والمطامع، والحب العميق يلازمه الخوف والأوهام.. بل لعله من فرط حساسيته وعمقه يخلق لنفسه المخاوف والأوهام ثم يصدقها، وهى حال شعورية جعلت أديبنا الشعبى المجهول ينفض خوفه أو خوفنا فى قصة سيف بن ذى يزن، فيرسل النصيحة من عنده على لسان يثرب وزير الملك فى هذه الصورة المنزعجة لهفة وحذارًا:
“واعلم يا ملك الزمان أن هؤلاء الحبشة والسودان لابد أن تنفذ فيهم دعوة نوح عليه السلام، لأنه مجاب الدعوة بين الأنام ولا شك فى ذلك، وأنهم يخافون على مجرى النيل من نزوله إلى الأرض الوطيئة، خوفًا أن ينزل إلى مصر فهم جاعلوه على قدر أرضهم، وإذا فاض يجعلون له تصاريف فيها إلى الربع الخراب، وإنهم لا يعملون عملًا إلا بإذن الحكماء وهذا هو الصحيح والأمر الرجيح”.
وتواصل قائلة، كأنها تحدثنا الآن، “إنها حالة شعورية ولدها فى نفوسهم شدة إحساسهم بالنيل، وشدة تأثر حياتهم به فى وقت كانت الزراعة فى مصر كل شىء.. حقًا إن هذه المخاوف وأشباهها تراودنا الآن نحن المصريين المحدثين بحكم تغلغل الاستعمار- وإن بدا لنا ظله يتقلص- وتقدم العلم وحلم المناطق البكر فى حوض النيل بالتوسع الزراعى واستغلال المساحات الشاسعة العاطلة الآن مما يستأدى أصحابها حجز الماء أو خزنه أو استغلاله على نطاق واسع مدبر مما يخشى منه – بحكم تعارض المصالح وتحكم الغرائز – المساس بمصالح مصر.. وهو سيف يلوح به كثيرًا فى وجه مصر، ولعل السد العالى ضمان شعورى يقابل هذه المخاوف.. وكأنها تتحدث الآن عن مخاوفنا من سد النهضة الأثيوبى.. والحقيقة أن الكتاب يستحق أن يعاد طبعه للأجيال الجديدة.. رحم الله الدكتورة نعمات أحمد فؤاد.