صاحب الثقلين
صلاح جاهين كان بسيطًا كبداهة أين وجد.. وعميقًا كأثر لا يزول، كلٌّ منَّا بداخله ذلك المهرج، غير أن المساحيق وبهرجة الألوان، تبدو مستترة فى الغالب.! لربّما مدَّ لسانَه ذلك المهرج فى غفلةٍ منّا، فتمادى فى ضحكةٍ أو موقفٍ ما عبّر عنّا.. سرعان ما تتراجع الحياة وهى تلبسنا وقارها.. عن لحظةٍ هى بظننا خارجِ السياقْ! وإذا كان الجِّد كنومنا يستغرق من حياتنا ما يستغرق!. نتساءل عن حزنٍ يظل ملازمًا.. - من يصنعون الضحك لنا - حدَّ الاكتئاب وربما قادهم إلى نهايةٍ غيرِ متوقعةٍ بل وتراجيدية أيضًا!. ونحن الجادّون نظنُّ فى حياتهم كلَّ السعادةِ وطولَ العمرْ.. أم هى مفارقاتُ الحياة وتضادّها التى تُعرَف به؟!
هؤلاء المرحون على مسّرحِ الضّحكْ.. وإن بدوا فى أشكالٍ أو أدوار أخرى، من كوميديان على الشاشة، أو رسّام كاريكاتور فى صحيفة، أو مهرجٍ فى سيركْ.. يظل السؤالُ الماثل: لماذا حالة الحزن هذه خلف من يمنحوننا كلَّ هذا الضّحك؟ّ!
"صلاح جاهين" بقدر حساسيته التى تكاد أن تكون مفرطةً حدَّ الهشاشة، فإن البساطة وجهُها الثانى يغلفهما نسيان يتخطاهما معًا، لكى يكون نفسه من جديد حاضرًا بفنه فى كل مرة، وقد تعدّدت مواهبه، وتنوعت إبداعاته، وإن ظنَّ هو ما يبقى من جاهين الشاعر فحسب.
فشاعر الرباعيات الذائعة التى عرفت باسمه، ولخصت فلسفة جاهين فى الحياة، والتى تنوّع فيها فصل الربيع لوحده عدة فصول، حيث ألبس الربيع كل سنة معنى مختلفًا عن الآخر، كتب السيناريو والحوار والاستعراض وقدم أشهر مسرح عرائس فى مصر (الليلة الكبيرة) فى مطلع الستينيات، وهى تجربة أصيلة فى عالم العرائس الجميل، أيضًا نقل بريشته الواقع المصرى المعاش والبعد القومى والسياسى الدولى كرسام كاريكاتير، واختير ممثلًا فى عديد من الأدوار فى السينما المصرية.. هل خطر على باله أن يكون كل هذا؟! كان طوال الوقت لاعبًا..
ألا تعطينا فكرة كيف كان يرى الرجل الفن؟ وكيف جرّب كل ما اتقنه بحرفية شديدة الإخلاص، كان قريبًا من كل شىء، وأسرار النبع دائمًا فى المصب من أسراره.. فى كل ذلك كان يمثل مرحلة مهمة من تاريخ مصر، ومن تم كان وجعه ومعاناته بثورة آمن بها، وأشعل وقود حماسها فى قلب كل مصرى بكلمات صاغها لكبار فنانى مصر، وأغانٍ عاشت ترددها الملايين.
ببساطة ما يقدمه من فن.. الفن الذى واكب كل تحولاتها، والأغانى الوطنية التى لم يحبها يوم من الأيام ! كان عرّابها الذى اقترب منها بشكل جديد، ومنحها كل هذا الحب والدفء، وهى تتغنى بعاطفة مختلفة، وترسم صورة جديدة فى مصر والعالم العربى، وصمود الثورة وما مرّ بها من أزمات.. قلب حمل كل هذا كيف يكون وقع النكسة عليه؟ وهو ما لم يتوقع أن تكون بحجم هذا الخراب المزمن فى الروح!..
وإذا ما ضاع إيمانك بشىء فقدت معنى وجودك فيه!.. وكان ذلك الاكتئاب حيث أصبح ضيفًا ثقيلًا فى أوقات كثيرة.. كلما تراجع الفنان فيه إلى الإنسان.. تألم أكثر.. وكثيرًا كان يتأمّل ما حدث!
هل كان صلاح جاهين الإنسان ضد صلاح جاهين آخر لم يعرفه!؟ ولماذا هذا المدخل عن صلاح الإنسان قبل الفنان؟.. لأنه إنما بذاك الإنسان البسيط كان فنه، بساطة صلاح تكمن فى عدم القصدية أساسًا، التى لازمت كل إبداعه، وهى غير واردة إلا بالظروف التى أنتجتها! وتلك خميرة الموهبة الجيدة لدى صلاح، فليس كل شىء قصدى لديه، وربما قارب كل ذلك شكل اللعب! الذى صار ديدن الفنان، وما الفنان إلا ذلك اللاعب المميز بين أقرانه البشر، بأدوات يملكها وحده ويبهر بها الشاهدين على إبداعه.