أبو سعدة: أرسم بالكلمات ما لا يمكن رسمه بالريشة
يرى أن ما يتوجب على الشاعر عمله هو تكوين صورة بصرية
وجود المرأة الشعرى ضرورة كما هى ضرورة فى الحياة
جيل السبعينيات مزج بين الإيقاع الخليلى وموسيقى النثر
فريد أبو سعدة شاعرٌ من جيل السبعينيات، أثرى حياتنا الأدبية بروائعة الشعرية، وُلِد بمدينة المحلة الكبرى عام 1946م، وفى سنة 1972م حصل على بكالوريوس الفنون التطبيقية، ونال دبلوم الدراسات العليا فى الصحافة 1981م، وعمل مديرًا للنشر الثقافى بدار المعارف، كما اختير عضوًا بالمجلس الأعلى للثقافة، وتوج بجائزة الدولة التشجيعية عام 1993م.
من دواوينه الشعرية: السفر إلى منابت الأنهار – معلَّقة بشصٍ – أنا صرتُ غيرى، وله عدد من النصوص المسرحية، وكتب فى أدب الأطفال.
وفى هذا اللقاء نبحر معه فى دروب الشعر وألوانه وقضاياه.
* ما المؤثرات التى أسهمت فى تشكيل بوتقتكم الإبداعية؟
كنت ــ ولا أزال ــ أعتبر تكوين صورة بصرية مدهشة هو ما يتوجب على الشاعر عمله، من خلال التشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من عناصر التخييل، ولأننى كنت رسامًا قبل كل شىء، كان امتلاكى لقدر كافٍ من المفردات والموسيقى حافزًا للرسام بداخلى، فأخذت من خلاله أرسم بالكلمات ما لم يكن من الممكن رسمه بالريشة، العلاقات الغامضة بين الأشياء، الرهافات والالتباسات، وأوجه الشبه التى لا مرجع لها فى الحقيقة سواى، كانت الصور تفاجئنى وتدهشنى، كما تفاجئ الآخرين وتدهشهم، وربما بتأثير هذا الولع، كنت أنفر - ولا أزال - من الصور التى ليست نتيجة تخييل حقيقى، الصور التى لا يمكن تصورها بصريًا، لقد حلمت بقصيدة تشبه "الطبيعة الصامتة" فى الفن التشكيلى، إذ تتحدث اللوحة نفسها دون كلام، لأننى كنت مهمومًا بالفن كما أوضحت، فإن اللغة لم تكن فى تجربتى إلا وسيلة، إنها بديل للفرشاة أو الكاميرا لنقل هذه المشاهد التى تشاغب خيالى، كنت أريد أن يرى القارئ ما أرى لا أن يسمع ما أقول، ويستخلص من المشهد المعنى الذى يمرق كشهاب فى خيالى.
* وما مصادرك وكيف أثرت على تجربتك الإبداعية؟
- مصادرى كثيرة ومتعددة تجدها فى المسرح والرواية والسينما والفن التشكيلى، لقد كنا فى أوائل الستينيات مسحورين بالسينما الجديدة عند كلود ليلوش مثلًا، حتى أننى تمنيت أن أكون مخرجًا، كان الكادر قصيدة كاملة، وفى أوائل السبعينيات سحرتنا الواقعية السحرية عند أدباء أمريكا اللاتينية، ونبهتنى إلى كرامات الأولياء والشطح الصوفى فى تراثنا، وبين الستينيات والسبعينيات كنت أتدبر القروش القليلة للسفر من المحلة إلى القاهرة لرؤية «ليلة مصرع جيفارا» أو «ماراصاد» وغيرهما من عروض المسرح القومى أو مسرح الجيب وقتها، كما أحببت – فى أثناء دراستى للفن- السريالية، وأهمية الطبيعة الصامتة، تلك التى تقول نفسها دون حاجة إلى الكلام علمتنى السينما تكوين المشهد، وعلمنى المسرح الإيقاع، وعلمتنى الرواية الحكى، وعلمنى الشطح الدهشة، وتعلمت الاقتصاد من الطبيعة الصامتة.
* النص الشعرى عند فريد أبو سعدة له ملامحه الخاصة، فهلا تحدثنا عن بعض ملامح تفردكم؟
- أنا مثلك أود أن أعرف! ولكنى سأقول فقط، إننى أحوِّم بالسرد والسع بالمجاز، الطبيب الجراح لا يقوم بإجراء العملية لنفسه، بل يحتاج إلى طبيب آخر فى تجربتى الشعرية منذ "السفر إلى منابت الأنهار" وحتى "أنا صرتُ غير" انتقالات مختلفة، ويمكن للناقد أن يرصد هذه الحركة من الديونسيوسية إلى الأبولونية فى تجربتى، وفى هذا التحول التدريجى تخلت التجربة عن عناصر وأبرزت أخرى، وإن تمسكت على الدوام باللغة الحسية والحبك السردى، لا شك أن هذا التحول كان قرينًا بتحولات الوعى، فإذا كانت مهمة الشاعر - فيما مضى - هى اكتشاف الانسجام فى الفوضى عبر مؤالفة الأصوات كما فى الإيقاع الخليلى، فإن مهمة الشاعر الآن - فيما أرى - لم تعد مقتصرة على تجميل العالم أو تسويغه باكتشاف النظام فى الفوضى، وإنما مهمته اكتشاف الفوضى فى النظام، أى البدء بالعالم كما هو عليه، ودون أى تصور مسبق، من خلال هذا الوعى أصبح فى إمكانى وضع الموسيقى فى مواجهة الميلودى، ووضع الجموع فى مواجهة الجماعة، بجملة واحدة كانت تجربتى تتحرك من مركزية الصوت، ومركزية الذات ومركزية الجماعة الأيديولوجية، إلى تعددية ترفد الصوت بالموسيقى والأنا بالآخر والجماعة بالثقافات المغايرة، لقد تحولتُ من شهوة تغيير العالم إلى شهوة خلقه!!
* بعض شعراء التفعيلة هجروها - إلى غير رجعة - إلى قصيدة النثر، تُرى ما الذى أغراهم بذلك؟
- كما فى كل فن، هناك الأصلاء وهناك الدخلاء، والدخلاء يدفعهم للتقليد فقرهم الإبداعى من جهة وركوب الموجة من جهة أخرى، فحتى القدماء المتمرسون بالعروض، كانوا يدركون أن الشعر لا يتوفر فقط بتوافر معرفة العروض، وإلا كانت ألفية ابن مالك شعرًا!! ولعل من قطعوا أسبابهم بشعر التفعيلة - مع قدرتهم عليه- ارتاحوا إلى القميص الجديد.
* هناك من يقول بأن الذائقة العربية لم تستسغ - حتى اليوم- قصيدة النثر، فهل توافقون؟
- الشعراء ملوك اللغة، والمنوط بهم رفع مخيلة الجماعة، وترويض ذائقتها لتقبل الجديد والتماهى مع تغير الوعى، إنهم فى صيرورة مع العالم، ويسوغون للجماعة تقبل تحولاته المستمرة، ذائقة الجماعة دائمًا ما تكون محافظة وترتاح إلى ما خبرته وهى عدو ما تجهل، وتغييرها بطىء عادة، قل لى كم من الوقت استغرقها تقبل القصة والرواية والمسرحية والسينما، فإذا أضفنا إلى هذا أن السلفيين من الجماعة الراغبة فى تجميد التاريخ وتجميد ذائقة ماضوية، يدفعون الملايين من أجل الانتصار للقصيدة العمودية، فنجد جوائز "شاعر المليون" ويغرون النقاد بالتحكيم فيها، وهم فى قراراتهم لا يحبونها!
* يقولون أيضًا إن جيلكم (السبعينيات) قاد تمردًا على جيل الستينيات.. كيف؟
- يمكن القول إن إعادة النظر فى الرؤى المستقرة وطرح الأسئلة، كان الهوس الحقيقى الذى ميز السبعينيين، وقادهم إلى خلخلة النموذج وهدمه، فعلى مستوى اللغة تم المزج بين الشريف والمبتذل فيها، وعلى مستوى الإيقاع تم المزج بين الإيقاع الخليلى وموسيقى النثر، وفى البناء تم التخلى عن القصيدة البسيطة لصالح القصيدة المركبة، كل ذلك فى إطار رؤية تنتصر للشفاهى والمسكوت عنه أو المحذوف (لا للعلم به بل للخوف منه).
طرح السبعينيون بجرأة مفهوم الشعر نفسه فى قصائدهم، وهدموا ثنائية الشكل والمضمون، إذ صار الشكل معنى فى ذاته، ومن هنا كان التوسع فى التجريب توسعًا فى موائمة القصيدة لوقتها، وحتى القضايا الكبرى تراجعت فى مواءمة بين الجمالى والسياسى، لتدخل النص من الأبواب الخلفية.
* وصفتم دور شعر النفعيلة بـ(النبوى والرسولى)، وقلتم إنه الدور الذى مثله أمل دنقل وقاد به الجماهير من أذنيها، ألا يمثل ذلك ظلمًا للرجل وإجحافًا بحق متذوقى فنه؟
- أى ظلم وأى إجحاف يا عزيزى؟! أمل كان "أمير شعراء الرفض" وكتبت عنه مقالًا بعنوان "قبضة العاصفة"، وكنت صديقًا له، وكان أحد آبائى الشعريين، وهو منذ كتب "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة"، أخذ دورها، دور العراف الذى يرى ما لا تراه القبيلة من أخطار، لتنبيهها وتحذيرها من العدو، الذى يأتى على هيئة أشجار!! هذا ما أسماه بعض النقاد بالدور النبوى أو الرسولى، أما عن أنه قام بهذا الدور شعريًا، فقد استخدم فى شعره القوافى المقيدة شديدة الوقع قاصدًا التنبيه!! ولو راجعت الحوار الذى أجراه معه د. سيد البحراوى فى كتابه عن أمل "البحث عن لؤلؤة المستحيل" لعرفت أنه هو نفسه تحدث عن هذا، ولكنه مع مرضه، ومع يأسه بعد كامب ديفيد، كتب قصائد "الغرفة رقم 8" وهى شعر خالص.
* تحدثتم من قبل عن غياب المرأة/ الشاعرة خلال السبعينيات، فهل حضورها الطاغى الآن أحدث جديدًا للمشهد الشعرى؟
- بالقطع وجود المرأة الشاعرة أعطى للمشهد مذاقًا أنثويًا، كان الرجل يدعيه ويقوم به نيابة عنها، بتخيله مشاعرها وتصوراتها عن العالم وأفكارها عنه، وجودها الشعرى ضرورة كما هى ضرورة فى الحياة، إذ يغنى ويصحح تصورات الجماعة عنها، إنها مواطنة فى دولة مدنية، وليست أسيرة خيمة فى الصحراء يحرسها بدوى!